فنون

نقطة توقف.. سيرة اللون

وحدها تكترث لشعيرات بيضاء أظهرتها الأيام والمرآة.. لا يتناسب هذا اللون الرمادي مع شحوب بشرتها، بل يبرزه ويعلن عنه بجلاء. فتقرر “هـوب” السيدة الخمسينية القياسية التي من الممكن أن تمر بجوارك بالشارع أن تلوّن شعرها أو تعيده إلى سيرته الأولى.

الأمر يتعدى صبغ الشعر الذي يرفضه الزوج البخيل.

  • “شعرك لا بأس به” يقرر الزوج الشره الذي ينكب على المائدة كدُبٍ يلتهم الطعام تماما كما ينكب عليها حين تتأجج رغبته فيفترسها.

تقضي هوب أيامها برتابة وملل ومناورات مع زوجها لإقناعه بالاشتراك في خدمة الإنترنت كي يتسنى لها محادثة ابنتها وحفيدتها الصغيرة.. متع صغيرة تقاتل أمامه من أجلها. ولا يقتل رتابة أيامها إلا صديقتها التي تصطحب معها دوما حفيدتها الرضيعة. وتدور أحاديثها حول شفط الدهون وعمليات شد الوجه وعروض مراكز التجميل كما يليق بإمرأة خمسينية تعاني من أعراض فترة انقطاع الطمث هي الأخرى. سيخبر طبيب النساء “هوب” أن من أعراض تلك الفترة الجفاف الشديد وتقلب المزاج واضطراب الذاكرة. وسيكتب لها بعض الأدوية تبتلعها “هوب” كل حين.

تجد “هوب” سلواها في الرسم الذي تمارسه وتتدرب عليه في دروس تنتظم فيها، وتنقل على لوحاتها نماذج من الطبيعة الصامتة كصمتها الذي تحترفه.

عالمان متوازيان تحت سقف واحد.. هوب التي تتابع الأفلام بسماعة تعزلها عن العالم، وزوجها الذي يتابع الماتشات الرياضية وأخبار السياسة والإقتصاد. جسدها النحيل الدقيق وجسده الوافر، صمتها ورقتها.. صخبه ورعونته. أخيرا يقرر بيع سيارتها التي تنجز بها مشاويرها للسوبر ماركت أو للطبيب أو لدروس الرسم. تستيقظ.. فلا تجده بالبيت، لكنها تسمع صوته من الشارع يتمم صفقة بيع سيارتها الصغيرة. تشتبك معه ويباعد بينهما الجيران.

يبلغ حنق “هوب” مداه. فتقرر أن تعلن عن غضبها وتتخذ مواقف من زوجها من الآن  فصاعدا.. من أمام التلفاز يشاهد المباراة وتتعطل سماعاتها فتضطر إلى أن تستمع إلى البرنامج الوثائقي الذي تتابعه بلا سماعة تضعها على أذنها كعادتها، يزيد هو من صوت المباراة وتزيد هي من صوت الفيلم.. كلاهما مُـصِر على سماع قناته المفضلة. هو من أمام شاشته وعلى مقعده الوثير، وهي على أريكتها، يتسابقان في إعلاء الصوت. أخيرا تذهب للمطبخ وتحضر مقصا وتقطع كابل تلفازه وتنظر إليه بتحدٍ.
سيتكرر الأمر حين يحاول أن يمنعها عن الطعام قائلا لها:

– ليس معنى أنك طهوتِ الطعام أن تأخذي قطعة ثانية.

تنظر له بتحدٍ وتلقي طعامها عليه فيتلطخ وجهه. فيعتذر لها ويحاول استرضائها.

لكن أيا من ذلك لم يحدث قط.. فلم يكن ذلك أكثر من ضلالات “هوب” التي تفيق منها وتخضع لأوامر زوجها.. ويستمر هذيانها حتى يطول جارها الشاب في الشقة المقابلة وعامل الدهان الذي يجدد المنزل في قبلات مسروقة لا تحدث إلا في خيالها فقط.

منزل “هوب” مليء بالزهور القليل منها أصفر وأبيض. والكثير منها باللون الأزرق كما لون مطبخها, وحتى آخر لوحة رسمتها كانت بزهور زرقاء وفي غمرة غضبها من زوجها تعيد تلوين لوحتها تلك باللون الأحمر فتردم اللون الأزرق ببرودته.. وتستبدل الأزرق بوداعته بالأحمر بتأججه وناريته في المقابل.

تبيع صديقتها إحدى لوحاتها ولا تنس أن تأتي لها بصبغة لشعرها تعيده للونه الأصلي فتدرك كم هي جميلة وتغرق في الألوان هي وصديقتها ولكن هذه المرة في الديسكو بألوانه وصخبه في انفلاتة من أسـر أيامها الرتيبة.

في ليلتها تلك وبعد أن حاولت الترويح عن نفسها للحصول على مزاج معتدل، يرجع زوجها ويأخذها بلا استئذان، حينها تتخذ “هوب” قرارا ثوريا.. تتسلل من جانبه وترتدي أفضل ثيابها وحقيبة يد جديدة كانت قد اشترتها من مدخراتها، تسرق نقوده كما سرق عمرها وصحتها وترتحل حتى تصل إلى الطريق السريع فتستقبل مكالمة من ابنتها تسألها فيها عن مكانها فتخبرها أنها في طريقها للبيت.

ترجع للمنزل قبل استيقاظ زوجها تعيد ماله، وتزيل آثار زينتها وتُـرجع كل شيء كما كان، لكن غضبا مكتوما يتنامى بداخلها. ولا يلهيها عنه إلا وصول صديقتها بحفيدتها الصغيرة فتتركها لديها لحين عودتها من عيادة التجميل. وحين تبكي الصغيرة ولا تستطع “هوب” إسكاتها نراها وقد خنفت الرضيعة، وتركت شقتها لأعلى بنايتها حيث أخذت نقود زوجها التي ظل يكدِّسها، وتلقي بها في الهواء وصوت سارينة الإسعاف يتهادى من بعيد.

لكننا نكتشف أن أيا من ذلك لم يتحقق أيضا.. هي إحدى نوبات الهذيان التي اعتدناها من “هوب” التي ترجع لبيتها فترى صديقتها وقد عادت من عيادة التجميل وتحمل الصغيرة وتخبرها صديقتها بأنها وجدت باب الشقة مفتوحا وزوج “هوب” مستلقٍ شبه عار، لكنه ميت فطلبت له سيارة الإسعاف التي جاءت وأخذته. تطمئن “هوب على نقود زوجها الذي كان يخفيها فتجدها وتضحك بلا انقطاع.

 

ربما يجسد الفيلم قضية هامة تعاني منها أغلب النساء. ويتساوى في ذلك المرأة في قبرص حيث جنسية مخرجة وكاتبة العمل تونيا ميسيالي والمرأة في أي بلد آخر. وعلى جهد المخرجة واستخدامها الواعي للألوان وجعل اللون ثيمة بصرية وسردية في آن توحي وتخبر به دون كلمات، والسيناريو الذي يجسد كيف قد يُفضي الإهمال العاطفي إلى الجنون، فضلا على الأداء البديع لستيلا فيروجيني بطلة الفيلم؛ لكن نهاية الفيلم تجعل من المصادفة القدرية هي الحل الوحيد للتخلص مما تعانيه نساء العالم من مشاكل سواء من جدب عاطفي واستنزاف بدني واستخدام جسدي. مثل هذه النهايات تكرِّس لإنعدام الأمل أمام المرأة في وجود فرصة حقيقية لتحسين أوضاعها، أو اقتراح سيناريوهات بديلة لواقعها، وتنضم لأفلام المرأة التي تضر المرأة. فلا يكفي هنا عدالة القضية فقط، بل الذكاء في الدفاع عنها.

* عُـرض الفيلم ضمن أسبوع النقاد بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الأربعين.

ٌإعلان الفيلم:

 

الوسوم
إغلاق
إغلاق