التقارير
القاهرة الكوزموبليتانية .. عمارات اليونانيين في وسط البلد
حين شرع محمد علي والي مصر في بناء دولته الحديثة، قرر الاستعانة بخبراء ومتخصصين أجانب في مختلف التخصصات، فجاء اليونانيون في المقام الأول كأكبر وأكثر الجاليات الأجنبية انتشارًا في مصر، ونتيجة لنظام الامتيازات الأجنبية التي كانت تعفيهم من دفع الضرائب فقد نزحت الأغلبية منهم إلى القاهرة وجعلوًا منها مركزًا تجاريًا لهم.
هكذا، فإن مبانى وسط البلد التراثية كانت مبانٍ “كوزموبوليتانية” جسدت التعدد الثقافي والعرقي الذي كان سمة مصرية في ذلك العصر ولم تكن مبانٍ شيدها المستعمرون الأجانب لأبناء المستعمرات كما هو الحال في عمارة مدن كثيرة في شمال أفريقيا والهند على سبيل المثال، فنجد في قلب وسط البلد عمارات تم تشييدها وفق الطرز المعمارية التى كانت سائدة في أوروبا وقت البناء، لكن المالك يهودي والمهندس فرنسي والسكان خليط من المصريين والشوام والأرمن والإيطاليين وهكذا، ومازالت بعض هذه العمارات والمباني التي أفلتت من التأميم ملكًا لما تبقى من ورثة تلك الجاليات التي لم تغادر مصر.
وبالنظر إلى منطقة وسط البلد بالقاهرة فقد تركز بها عدد لا بأس به من أفراد الجالية اليونانية وبنوا عقاراتهم الخاصة في شوارع مختلفة منها؛ شامبليون وشريف وميدان الإسماعيلية. ميدان التحرير حاليا، حيث أضفوا عليها الشكل المميز للعمارة في اليونان، أعمدة في داخل البناء وخارجه، وجسم العمود المستدير وتاجه المربع البسيط، والأروقة المعمدة، إضافة إلى الكبائن المغلقة من الزجاج الكريستال.
وكان من عادة اليونانيين أنهم إذا ما حلوا بمدينة أنشأوا فيها كنيسة ومدرسة، ومن ثم كانوا يجمعون المال من بعضهم لإنشاء كنيسة ومدرسة لهم ولم يكن الغرض منها قيام التعليم اليوناني أو نشر مذهب معين، بل كان هدفهم تعليم اليونانيين اللغة اليونانية والاحتفاظ بثقافة وعادات بلادهم، ومن بين تلك الكنائس، الكنيسة التي بنوها بمنطقة وسط البلد وهي الكنيسة اليونانية بمنطقة الإسعاف، التي وُضع حجر الأساس لها عام 1906، واكتمل البناء عام 1914.
يقول “توني تيامانديرس” رئيس لجنة الكنائس بالجمعية اليونانية:”في البداية اشترى ثلاثة أخوة من عائلة “كريازي” قطعة أرض بمنطقة الإسعاف لبناء مصنع للدخان، ولكن في بداية القرن العشرين قرروا التنازل عنها للجمعية اليونانية لبناء كنيسة بهدف خدمة أفراد الجالية، فقام “تساناكليس” وهو أول رئيس للجمعية اليونانية، بشرائها بسعر يقارب اثنين جنيه ونصف للمتر، وهي تقع على مساحة تقارب التسعمائة متر مربع ومقامة على الطراز البيزنطي، وجرى تجديدها في السبعينات، وحتى الآن لم تسجل كأثر بوزارة الآثار المصرية، كما لم تسجل بالجهاز القومى للتنسيق الحضارى ضمن الأبنية ذات الطراز المعماري المتميز”.
أثناء وجود اليونانيين بمنطقة وسط البلد شرعوا في بناء عماراتهم الخاصة ليقيموا فيها بالقرب من تجارتهم، حتى جاءت ثورة يوليو عام 1952 وما ترتب عليها من حركة التأميم وتمصير الاقتصاد المصرى، إضافة إلى الحالة الاقتصادية التي كانت عليها مصر، الأمر الذي دفع عددًا كبيرًا من اليونانيين لمغادرة البلاد، فمنهم من قام ببيع عقاراته، ومنهم من أوكلوا لمحام مهمة جمع الإيجار من السكان وإرسال الإيراد إليهم في اليونان، ومنهم من فضلوا البقاء في مصر على العودة لوطنهم الأصلى فبقيت عقاراتهم كما هى.
أحد تلك العقارات المملوكة للجالية اليونانية حتى الآن، العمارة التي تقع في 28 شارع شريف، على مساحة 2100 مترًا بارتفاع ستة طوابق، يقول “توني تيامانديرس” مالك العمارة الحالي، إنه ورث العمارة عن والدته، وكان جده “يوأنو” قد اشترى الأرض التي بنيت عليها في عام 1929، واكتمل بناؤها عام 1930، وقد صممهامعماري سويسري الجنسية”. ويضيف “توني” :”في الخمسينات كان 90% من سكان العمارة من اليونانيين، وعقب ثورة يوليو 1952 تركها عدد كبير منهم، وحل مكانهم سكان من جنسيات مختلفة، ولكنها مؤخرًا تحولت لعمارة تجارية بالكامل، كما تحولت أيضا لنظام الإيجار الجديد، وتتراوح مساحات الشقق فيما بين 150 إلى 235 مترا، أما السطح فيضم نحو ثمان وأربعين غرفة كانت قديما تستخدم كمسكن للطباخين أو العمال، وهي حاليا مغلقة، كما يوجد بالعمارة نحو اثنين وخمسين غرفة استديو، وقد تم تجديد العمارة منذ أكثر من خمس سنوات”.
يشير “تونى” إلى أن هناك أحد المالكين اليونانيين وهو “سارباكيس” يمتلك نحو ثلاثين عمارة بمنطقة وسط البلد، ولكنه سافر إلى اليونان في السبعينات وأوكل إلى المحامى اليونانى “دوس” مهمة بيع عماراته، فباع الكثير منها ولم يتبق منها سوى العمارتين رقم 9 شارع ميريت المصممة على طراز النيو باروك الفرنسى بمساحة 910 مترًا، و 11 شارع ميريت المصممة على طراز أرت ديكو بمساحة 870 مترا بميدان التحرير. ومن المالكين أيضا “أسلانيدس” و”لوكيتيس”اللذان يمتلكان عمارة بشارع شامبليون، و”فرايلاس” الذي يمتلك عمارة رقم 32 شارع طلعت حرب في تقاطعه مع شارع عبد الخالق ثروت، و”باتساليس” الذي كان يمتلك عمارة أمام سينما أوديون وباعها، وقام المشتري بهدمها وبناء برج مكون من 11 طابقا مكانها.
ومن بين أبنية اليونانيين بمنطقة وسط البلد، عمارة رقم 16 شارع 26 يوليو، وهي تابعة للمؤسسة العبيدية اليونانية التي قامت بشراء الأرض وتخصيصها لتكون مقرًا لها، ثم حولتها مقرًا لمدرسة يونانية، وبعدها تم هدم تلك المدرسة وبناء عمارة على طراز النيو باروك الفرنسى مكونة من تسعة طوابق على مساحة 4200 مترا، تضم تلك العمارة فى الثلاث طوابق الأولى مكاتب إدارية، وفي الطابق الرابع والخامس والسادس شقق سكنية وعيادات، أما الطابق السابع والثامن والتاسع فهو فندق “سكارابيه”. ولتلك العمارة مدخلان متصلان من الداخل وبها نحو ستة مصاعد.
52 تعليقات