التقارير
القصة الكاملة لأقدم مقر للبنك المركزي المصري من الهدم إلى الإنقاذ
رغم ضخامته وواجهته المعمارية المميزة، لن يلفت نظرك وأنت تسير في شارع جواد حسني قادمًا من شارع قصر النيل بوسط البلد، لانتشار المقاهي حوله وزحام المارة، بالإضافة إلى حالته المتدهورة، والتي لا تعكس ما كان لهذا المبنى من مكانة وأهمية في فترة سابقة باعتباره كان أول مقر للبنك المركزي المصري منذ ستينات القرن الماضي، حيث كانت تجرى فيه المعاملات البنكية اليومية وطباعة النقود ورسم السياسة النقدية للبلاد قبل أن يتحول إلى مجرد مخازن ومقر إداري للبنك المركزي، وقبل ذلك كان المبنى الذي تم تشييده حوالي عام 1890 فندقا كبيرا.
إذا نظرت جيدًا للمبنى ستجد نقش قديم عليه مكتوب عليه “البنك المركزي المصري” ويجلس في الغرفة المطلة على الشارع أحد موظفي الأمن التابعين للبنك، وعدد قليل من الموظفين الذي يترددون على المكان خلال الساعات الأولى من النهار، وليلًا لا يوجد إلا موظف الأمن.
يتكون المبنى من 3 طوابق على جزء من أرض تبلغ مساحتها 1745 متر مربع، ويبدو عليه التهالك والقدم رغم ما تحمله واجهته من نقوش وزخارف قديمة كحال أغلب العقارات التراثية القديمة بوسط البلد، وبجواره صالة “كاتساروس” أشهر وأقدم صالات المزادات في وسط البلد.
ومنذ ساعات، صدر قرار من لجنة حصر المباني التراثية بالجهاز القومي للتنسيق الحضاري بتسجيل المبنى ضمن قائمة الحصر الخاصة بالمباني التراثية، وذلك بعد سنوات طويلة من وعدم إدراجه في قائمة الطراز المعماري المميز باعتباره ذو قيمة تاريخية مميزة. ومؤخرا نشرت “منطقتي” عن قيام ورثة ملاك المبنى بعرض الأرض للبيع وما عليها من مبان، دون توضيح أي تفاصيل أخرى وهو ما نشرته “منطقتي” وقتها، ولعدة أشهر لم يظهر المشتري المناسب، ليعاود الورثة عرض الأرض للبيع مرة أخرى في مزاد بواسطة أحد مكاتب الخبراء، بما كان يعني هدم المبنى التاريخي والاستفادة من الأرض المقام عليها، لكن بصدور قرار تسجيل المبنى ضمن قائمة حصر التراث فإنه يحظر هدمه وفي حالة بيع الأرض يلتزم الملاك بالحفاظ عليه وتقوم الدولة بترميمه بالتعاون مع الملاك.
ترجع ملكية الأرض المقام عليها مقر البنك المركزي المصري القديم، لعائلة السيوفي والتي تمتلك أيضا العديد من العقارات بشوارع قصر النيل وجواد حسني، ويستأجر البنك المركزي المصري هذا المبنى منذ منتصف القرن الماضي وكان أول مبنى للبنك المركزي قبل أن يتم نقل الأعمال البنكية إلى المقر الثاني في شارع شريف، ثم انتقل مرة أخرى إلى شارع الجمهورية، وتحول هذا المبنى القديم إلى مقر إداري فقط ومخازن.
يقول أحمد هارون المحامي والحارس القضائي للعقار ورئيس دائرة آل السيوفي، إن العائلة قامت بتأجير المبنى في البداية للبنك الأهلي عام 1958م عندما كان يتولى المعاملات البنكية مقام البنك المركزي بصك العملة وغيرها، وعندما جاء قرار إنشاء البنك المركزي المصري عام 1961 آل عقد الإيجار والمبنى للكيان الجديد وكانت القيمة الإيجارية لا تتعدى بضع مئات من الجنيهات، تم زيادتها عقب القرار الوزاري بزيادة الإيجارات القديمة منذ حوالي 15 عامًا لتصل إلى ما يقرب من 2000 جنيه شهريًا.
وأضاف هارون، في تصريحات خاصة لـ”منطقتي” أن العائلة حاولت مرارًا مع البنك المركزي فسخ العقد بعد أن تحول المبنى إلى مجرد مخزن، حتى يستفيد الورثة من إلا أن البنك رفض رغم القرار السابق لرئاسة الوزراء بإخلاء المباني الخاصة من الدوائر الحكومية طالما أنهم لم يعودوا في حاجة إليها، مؤكدًا أن إدارة البنك رفضت قرار الإخلاء، مشيرة إلى أن البنك المركزي يتبع مباشرة رئاسة الجمهورية وليس مجلس الوزراء، وأن إخلاء المبنى لابد أن يصحبه الحصول على تعويض مناسب أو نسبة متفق عليها إذا ما تم بيع المبنى بما يشبه “خلو رجل” نظير فسخ عقد الإيجار القديم بين الورثة والبنك!
أما عن صالة المزادات فأكد أن المستأجر الأصلي توفي منذ سنوات وآل عقد الإيجار لابنه طبقًا لقانون الإيجار القديم، على أن يعود الموقع للمالك في حال وفاة الابن، إلا أنه بعد وفاة الابن أشهر رفض الحفيد إخلاء العين مما اضطر العائلة لرفع دعوى قضائية للمطالبة بالإخلاء.
وأشار إلى أن الآباء الكبار للعائلة كانوا من أوائل الذين شيدوا العقارات في وسط البلد، وهم الأخوين أحمد باشا ومحمد باشا السيوفي عام 1890، حيث تملك العائلة 6 عقارات بشارع قصر النيل وصولًا إلى جواد حسني وجميعها مأهولة بالسكان طبقًا لقانون الإيجار القديم ما بين سكني وتجاري ومحال تجارية لا تتعدي القيمة الإيجارية لها جنيهات قليلة تم زيادتها في السنوات الأخيرة ليتراوح السكن التجاري ما بين 200 و300 جنيه بينما المحال بين 400 و500 جنيه فقط.
ولفت إلى أن عدد الأحفاد حوالي 93 وريثا جميعهم يحصلون على “ملاليم” شهريًا رغم تاريخ العائلة الكبير وما تملكه من عقارات في أهم منطقة في القاهرة قائلًا: “العائلة عندها جوهرة في وسط البلد وبياخدوا منها قروش”.
وأكد أن المبنى المعروض للبيع حاصل على قرار تنكيس يتكلف تنفيذه مبالغ باهظة تصل إلى ما يقارب سعر المبنى نفسه، بالإضافة إلى تهالكه الشديد من الداخل وعدم صلاحيته للاستخدام إلا بعد الترميم، بالإضافة إلى أنه غير مسجل في الجهاز القومي للتنسيق الحضاري لافتقاره الشروط الواجب توافرها في المباني ذات الطراز المعماري المميز، بالإضافة إلى أن باقي العقارات المملوكة للعائلة هي مجرد عقارات قديمة خالية من أي طرز معمارية مميزة.
وتابع: مؤخرا قرر الورثة أن يتولى أحد مكاتب المزادات عملية البيع عن طريق المزاد العلني حيث يتم وضع كراسة الشروط بالاتفاق مع محامي العائلة ثم الإعلان رسميًا عن المزاد وموعده وشروطه ويتم دفع النسبة المتفق عليها لإدارة البنك المركزي وتقسيم باقي المبلغ للورثة، على أن يتم تسليم الأرض بما عليها من مبان خالية من السكان للمالك الجديد وله الحق التصرف فيها كيفما يشاء، مشيرًا إلى أن المبلغ المتوقع للأرض هو 50 ألف جنيه للمتر المربع.
منذ الإعلان عن عرض الأرض للبيع بما يعني هدم المبنى التاريخي، ظهرت بعض المبادرات لإنقاذ المبنى أبرزها المبادرة التي أطلقها الخبير الاقتصادي أيمن إسماعيل أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية على “فيس بوك” داعيا إلى جمع 2.5 مليون دولار لشراء الأرض وإنقاذ المبنى وتحويله إلى مركز ثقافي بدلا من بيعه لمستثمر يقوم بهدمه لما له من قيمه فنية وجمالية وتاريخية.
بينما أشار هارون، أن أحد المهتمين بالتراث عرض عليه شراء المبنى بواسطة جهات رسمية عالمية وبإشراف مؤسسة اليونسكو للعلوم والفنون لتحويله إلى مبنى لممارسة أنشطة ثقافية وفنية، ولم يتم تفعيل هذا الاتفاق، مؤكدًا أنه لا يمانع من تحويل المبني إلى مركز ثقافي بشرط دفع قيمته للملاك لأنه ملكية خاصة لا يجوز تحويلها إلى ملكية عامة دون دفع قيمة الأرض.
وبصدور القرار بتسجيل المبنى كمبنى تراثي يكون أقدم مقر للبنك المركزي قد تم إنقاذه، وبحسب الدكتورة سهير زكي حواس، رئيس الإدارة المركزية للدراسات والبحوث والسياسات بالجهاز القومي للتنسيق الحضاري، أن تسجيل مبنى في سجلات حصر المباني التراثية يعني إيقاف أية أعمال تتم فيه دون الرجوع إلى الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، وكذلك لجنة الحصر الخاصة بالمنطقة، وفي حال إضرار المالك بالمبني فهناك إجراءات تتخذ ضده.
وأضافت حواس لـ”منطقتي” أن المبنى المسجل يباع ويُشترى ويعاد توظيفه والاستفادة منه ما عدا التغيير في شكله أو هدمه كليا أو جزئيا، مشيرة إلى أنه أصبح هدم مبنى وإعادة بناءه غير مجزيا، لأن القانون رقم ١١٩ لسنة ٢٠٠٨ يلزم باتباع الاشتراطات الخاصة بالمناطق بما يتضمن عدم الارتفاع مرة ونصف عرض الشارع وإنما طبقا لمعايير أخرى بما يجعل الهدم غير مربح للمستثمر لأنه لن يتمكن من زيادة الارتفاع، وعلى سبيل المثال في القاهرة الخديوية أقصى ارتفاع هو ١٩ مترا فقط.