التقارير
عم محمد بائع الأنتيكات الذي حوّل “الموبايل” إلى “تحفة”: أبيع أنتيكاتي “للي بيفهم”
يمر كثيرون.. فقط يسألون دون شراء أي شيء

في الثامنة صباحا يستيقظ “عم محمد”، في منزله الموجود بمنشية ناصر، ذلك المنزل الذي يعيش فيه وحيدًا منذ وفاة زوجته، ينهض ، يغسل وجهه سريعًا، ثم يحمل “شنطة” الأنتيكات والعملات القديمة والهواتف المحمولة (جيل ما قبل السمارت فوت)، تلك الأشياء التي تعتبر مصدر رزقه الأساسي في الحياة، والتي تنتقل بجانبه أينما كان.
يذهب إلى زاويته أو بيته الثاني الذي يقضي فيها نهاره كاملًا وأجزاء من الليل ليبيع تلك الأنتيكات في امتداد شارع قصر النيل بعد ميدان مصطفى كامل أمام بنك مصر.
وبمجرد أن يصل عم إلى مكانه المخصّص، يفترش بضاعته على الرصيف.. عملات قديمة، طوابع تذكارية، أقلام حبر، يختلف عم محمد عن غيره من البائعين بأجهزة الموبايل القديمة التي ظهرت قبل “التاتش” و”السمارت فون”، يبيعها كـ”تحفة” لم تعد موجودة الآن.
ينادي على بضاعته بصوت هاديء مداعبًا المارة: “أنتيكات للّي يفهم”، يسكت قليلًا وينادي مرة أخرى “للي يقدّر”، هكذا حتى نهاية اليوم.

يعمل “عم محمد” بأعوامه السبعين في بيع الأنتيكات منذ ما يقرب من 11 عاما، لديه أربعة أبناء، زوّج ابنتيه بينما يعيش مع الولدان في نفس المنزل الذي رفض أن يتركه ويتزوج مرة أخرى بعد وفاة زوجته؛ فقط ليحافظ على بقاء أولاده بجانبه.
يقول الرجل المولود في الجمالية بينما تمتد أصول عائلته إلى الصعيد: مرضتش أتجوّز واحدة تاخدني من عيالي، قولت أجي على نفسي أسهل، وكلها كام سنة وأسيب الدنيا كلها، يبقى ليه أضيّع عيالي!
ترك مهنته الأولى كعامل محارة بعد مرضه الشديد إثر حادثة كبيرة تسببت في جراحات بقدمه أعاقته عن الحركة السريعة، يتقاضى معاش من الدولة حوالي 320 جنيه، مع ذلك يعلّق: “أنا بحب المهنة دي، يعني بتحافظ على حاجات بقالها سنين، بقعد أفتكر كدا كل شوية، لمّا أموت، ولادي وأصحابي هيفضلوا فاكرني كدا! يا ريت، هو في أحسن من أنك محدش ينساك”.
يمر كثيرون.. فقط يسألون دون شراء أي شيء، لكنه يقول أن المهنة غير مربحة تمامًا حيث يمكن في بعض الأيام ألّا يبيع على الإطلاق لكن “الرزق على ربنا، والحمد لله إني ماشي على رجلي”.
يقول أحمد محمد أحد زبائن “الفرشة” القدامى، أنه يحافظ على شراء تلك المقتنيات من حوالي 12 عام، لديه أصدقاء غاويين أنتيكات، باعتبار أن الثمين أمتن وأجمل، يحمل المشترون حسّ الفنان، بالطبع هناك من يدخلوا في الموضوع من أجل “السبوبة” والتجارة لكنه يظل جمالي وفني أكثر من أي شيء آخر، كما يعتبر أن ذلك انفتاح على ثقافات وأوقات مهمة في الحياة نظرًا لأن مصر خصوصًا أُحتلّت في كثير من تاريخها.
يواجه محمد مشاكل عديدة مع أسرته بسبب شراء مثل هذه الأشياء وفق قوله، لكنه لا يستطيع أن يمنع نفسه من الشراء، فبمجرد أن يجلس أو يسير ويرى الأنتيكات (العملات والمقتنيات القديمة) يترك نفسه للأشياء المجهولة التي لا يعلمها تجذبه ويشتريها.
في المقابل يقول لنا سمير ذو الـ37 عامًا أنه على مدى فترات طويلة يقل الأشخاص الذين يشغلوا تلك الوظيفة “عم محمد” وغيرهم، لتقتصر على عدد محدود من الأغنياء، فالدولة تهمل هذا الأمر بشكل كبير، يهتم عدد كبر من المصريين بالأمر إلى جانب الأجانب في مصر.
إلى حدٍ كبير يتحكم العوز المادي في الموضوع، فجهل الناس بالأمر يرجع في كثير منه إلى عدم تركيزهم خارج عملهم وربحهم المادي الكبير على حد قول موظف السياحة السابق أحمد محمد.
لكن في المقابل يملك كثيرين أعداد مهولة من الأنتيكات على سبيل الاقتناء والتجارة، من نادي العملة الشهير لغيره من المحلات الصغيرة والمتوسطة، كما يملك هؤلاء معلومات قيمة ونادرة كندرة ما يملكوه من أنتيكات وعملات قديمة.

أثناء تلك الرحلة الصغيرة لزاوية “عم محمد” لم يمر علينا أحد من مرتادي المنطقة الدائمين أثناء جلوسي مع عم محمد إلّا ويلقي عليه التحيه، ، تسأله الشرطة عن ما إذا كان هناك من يتعرّض له، الجميع يتمنّى خدمته، يحتوي الجميع بابتسامة صغيرة وكلمة ساخرة من أي شيء “بكرة الدنيا هتحلو، لمّا بتقدم بتحلو، الدنيا أصلها أنتيكة بردو زي اللي ببيعه دا”.
سألت عم محمد عن أغلى “تحفة” كان يملكها في حياته، صمت قليلًا وقال “الكنز الوحيد في حياتي كان زوجتي”. كل الأشياء القديمة تُذكّره بها.
إلى الآن، اليأس لم ينل منه؛ يستيقظ في الثامنة صباحًا، يحمل شنطته ويأتِ لوسط البلد ويرحل منها ليلًا ليطمئن على أولاده أو يجلس في المقهى قليلًا ويذهب للنوم، بجانب مقتناياته التي ربما لا توجد إلّا عند قليلين غيره بأرخص سعر.
44 تعليقات