التقارير
“الأنجلو”.. نهاية غير سعيدة لأشهر بارات وسط البلد
كاد يتسبب في إعدام سياسي شهير في العصر الملكي.. وكان المكان المفضل لكامل الشناوي وسليمان نجيب وتوفيق الدقن

باستثناء قلة قليلة من الذين سيصطفون لدفع فواتيرهم، لن يعلم أغلب رواد فرع شركة “فوري” للمدفوعات الإلكترونية في شارع شريف، ماذا كان عليه المكان الذي يقفون فيه قبل عقود.. فقط كبار السن ممن يعرفون وسط البلد جيدا، سينظرون إلى السقف العالي ويتذكرون، حتى وإن كان بعضهم لم يدخل المكان من قبل، واكتفى بملاحظة لافتته على مدى عقود.
نتحدث هنا عن بار الأنجلو إيجيبشيان المعروف اختصارا لدى رواده بـ”الأنجلو”.. المكان الرائع ذو السمعة الطيبة، والذي شهد أحداثا كبرى وذكر اسمه مرارا في روايات نجيب محفوظ وغيرها من الأعمال الأدبية، وفي كتب التاريخ، والمذكرات الشخصية، والحكايات الشفاهية والذكريات، بل وفي أوراق النيابة العامة في واحدة من أكبر القضايا التاريخية التي عرفتها البلاد عام 1952 ، وهي قضية حريق القاهرة، بل وكاد هذا البار أن يقود أحد أبرز السياسيين في ذلك العهد إلى حبل المشنقة.
بار الأنجلو.. المكان الذي كان يضج بالضحك والنميمة والصخب والأحاديث السياسية منذ العشرينيات وحتى عام 2009، أصبح مقرا لشركة “فوري” ستفتتحه بعد أيام بعد أن استردته شركة مصر لإدارة الأصول العقارية مالكة العقار رقم15 شارع شريف (شارع المدابغ سابقا) الذي يقع به البار أو الذي كان يقع به، من ورثة المستأجرين بدعوى قضائية وأعادت تأجيره لشركة المدفوعات.
ظل بار الأنجلو مفتوحا حتى عام 2009، كتب عنه الكاتب الراحل مكاوي سعيد في “مقتنيات وسط البلد”: “كان معروفا بشرابه المعتق وحسن أدب خدامه، وكان صغيرا وله دور علوي أصغر قليلا.. ومن رواده الشيخ عبد العزيز البشري، والاقتصادي أحمد نجيب، والفنان سليمان نجيب، والشاعر كامل الشناوي، والدكتور الجراح علي باشا إبراهيم، وتوفيق الدقن، وعبد السلام محمد. تدهور حاله في منتصف الثمانينات وأصبح الآن مخزنا تابعا لشركة مصر لإدارة الأصول العقارية”.

كان بار الأنجلو يواجه بار جامايكا الذي كانت تملكه الفنانة زوزو ماضي وكان يشكل معه الجناح الثاني لجلسات واستراحات أشهر نجوم الإذاعة المصرية حينما كان مقرها في شارع علوي، في الجزء الخلفي للمبنى الذي يشغله المقر الرئيسي للبنك الأهلي حاليا، ثم في شارع الشريفين الموازي لعلوي. كان “الأنجلو” لاتساعه مقارنة ببار “جاميكا” المكان المفضل أيضا لسهرات سماسرة البورصة المصرية التي يقع مبناها على بعد خطوات في شارع الشريفين بجوار مبنى الإذاعة، وظل كذلك حتى أصبح المكان المفضل لعديد من الكتاب والصحفيين من جيلي السبعينيات والثمانينيات.
ظهر في أعمال نجيب محفوظ كمكان للثرثرة في السياسة دون فعل أو فائدة

وكاد بار “الأنجلو” أن يتسبب في إعدام أحمد حسين زعيم حركة مصر الفتاة ومؤسس حزب مصر الاشتراكي، حيث طالبت النيابة العامة بإعدامه لدوره في التحريض وتنفيذ حريق القاهرة في يناير 1952، وكان الاتهام الرئيسي له من واقع المحاضر الرسمية وشهادة الشهود في قضية حريق القاهرة: اشتراكه بطريق التحريض والاتفاق في وضع النار عمدًا محل الأنجلو إجيبشيان بار، لصاحبه تودري كرامنيوس، والأماكن المجاورة له، ووضع النار عمدا في مبني سينما ريفولي والمحال المجاورة المسكونة، بالإضافة إلى وضع النار في محل شركة الصناعات الكيماوية الإمبراطورية، بشارع الأنتكخانة رقم 36، وشركة كوهينيكا للكهرباء بشارع إبراهيم باشا، ووضع النار عمدًا في محل الشركة البريطانية للسيارات.

وحولتهم النيابة العسكرية في العهد الملكي إلي المحكمة العسكرية العليا في القضية المقيدة برقم 143 عسكرية عليا سنة 1952، وجاء في أقوال شهود الإثبات مشاهدتهم للمتهمين وهم يحرضون على حرق القاهرة، وادعى أحد الشهود ويدعى وفيق بدر أفندي، مهندس معماري يبلغ من العمر 29 سنة، أنه شاهد، عصر يوم 26 يناير، اندلاع النيران أسفل عمارة الإيموبيليا، فشاهد الناس يشعلون النيران بشارع شريف في مواجهة بار الأنجلو، كما شاهد وصول سيارة سوداء اللون كان يستقلها المتهم الأول، أحمد حسين، ومعه المتهم الثاني، محمد جبر، فيما كان المتهم الثالث ممدوح عبد المقصود يحمل علما.
وفي 13 مايو 1952م أعلن قرار الاتهام في الصحف المختلفة تحت عنوان “النيابة تطالب بإعدام أحمد حسين”، حتي قامت ثورة 23 يوليو، وصدر مرسوم بالعفو السياسي الشامل عن جميع الجرائم السياسية برقم 241 لسنة 1952، وتم العفو عن المتهمين.
حضر بار “الأنجلو” أكثر من مرة في روايات نجيب محفوظ، حيث كان المنطقة وباراتها تمثل عند محفوظ “القاهرة الجديدة” أو الجزء الأحدث من المدينة التي يتحرك الروائي الكبير في ظهرها التاريخي بالمنطقة الفاطمية.. الحسين وخان الخليلي وحواشيها. وكان لاسم البار “الأنجلو إيجيبشيان” دلالة ورمزية واضحة في سياق مشاهد الرواية، وقد ذكر في روايتي “المرايا” و”السكرية” باعتباره مكانا للقاءات وللثرثرة في موضوعات السياسة.. مجرد ثرثرة لا تؤثر ولا تتطور إلى فعل في مكان اسمه يشير إلى المصريين “المتأنجلزين”!
لا توفر شركة مصر لإدارة الأصول العقارية مالكة العمارة ومن ثم مكان البار أي معلومات، واكتفى أحد المسئولين داخل الشركة بالقول إن الشركة بعد وفاة “الخواجة اليوناني” المستأجر القديم للبار، رفعت دعوى قضائية لاسترداده ممن ادعوا أنهم استأجروا البار منه قبل وفاته وغيروا اسمه إلى كافيه “ليالي التوفيقية” وربحت الشركة الدعوى وأعيد تأجير المكان إلى شركة “فوري” للمدفوعات الإلكترونية!

أين ذهبت رخصة البار؟ لا أحد يعلم، لا المسئول في مصر لإدارة الأصول العقارية” أو غيره. لماذا لم تؤجره الشركة كبار لإعادة تشغيله بنفس نشاطه التاريخي الذي عرف به؟، لا يجيب المسئول في الشركة!
فقدت خريطة البارات المحلية في وسط البلد إذا واحدا من أقدم أماكنها، وتحول “الأنجلو” إلى مقر لشركة للمدفوعات الإلكترونية، لكن في دليل التليفونات على الانترنت مازال موجودا في فئة المقاهي باسمه القديم وعنوانه.. “الأنجلو إيجيبشيان” 15 أ شارع شريف، وسط البلد. القاهرة. ت: 3938940
تعليق واحد