التقارير
من الإسكندرية للأقصر.. تعرف على البعثات الأثرية في مصر وأهم اكتشافاتها
استضاف المعهد العلمي الفرنسي بالمنيرة يوم الأربعاء الماضي، يوم البعثات الأثرية بحضور مديري البعثات الأثرية الفرنسية المختلفة والتي تعمل في أكثر من مكان في مصر، من الإسكندرية وحتى مدينة الأقصر، ولعرض الاكتشافات المختلفة. أسماء إبراهيم حضرت اللقاء وكتبت لـ”منطقتي” عن يوم خاص جدا في المنيرة..
أيــام المنيرة: بعثات أثرية.. رصاص سائل.. وكربون مشع
37 ش الشيخ يوسف بحي المنيرة بالقاهرة، العام يوشك على الانتصاف، والطقس مرتبك.. يوم شديد الحرارة يعقبه يوم ممطر!
وسط المدينة يزداد صخبه بأصوات قادمة من حديقة العلوم التي فرَّ إليها تلاميذ من مختلف الأعمار بعد أداء اختبارات نهاية العام. صخب يتناقض مع سور صخري أقرب للترسانة يحيط بقصر لن تدخله إلا عبر بوابة إلكترونية وإجراءات أمنية تحترز الغريب.
القصر الفخم المعمار ذو الأرضية الخشبية والأسقف العالية يحيلك لقرنين منصرمين حيث سكنت فيه الأميرة توحيدة إلهامي وثلة من الأسرة الخديوية، قبل أن تنتهي ملكيته إلى الحكومة الفرنسية ويصبح مقرا للمعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية، الذي نظم يوما للبعثات الأثرية الفرنسية في مصر للإعلان عن بعض الاكتشافات الأثرية للجمهور..
وفق لوران بافيه مدير المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية، فإن هذه الأيام الأثرية يعقدها المعهد بشكل دوري، وكان آخرها في ديسمبر الماضي بالمتحف المصري بمناسبة مرور 100 عام على حفريات دير المدينة بالأقصر.
أما نيقولا ميشيل مدير الدراسات بالمعهد، فيوضح طريقة عمل البعثات الأثرية الفرنسية في مصر والتي يعود بعضها لأكثر من 30 سنة، حيث يختلف عمل كل بعثة وفق هدفها، ففي حين يكون بعضها بهدف واسع كفهم منطقة ما بشكل كامل، فإن البعض الآخـر يكون تكميليا لبعثة سابقة، وأيا ما كان الهدف فلا يتم العمل إلا بعد استخراج التصاريح من وزارة الآثار، ثم يتم المسح الطوبوغرافي والتوثيق الفوتوغرافي ودراسة بقايا الخزف بالموقع لمعرفة الفترات التاريخية التي ينتمي إليها الأثر.
في هذا اليوم الأثري تم إلقاء الضوء على واحدة من أهم الجهات الأثرية العاملة في مصر، هو مركز الدراسات السكندرية، وهو مختبر فرنسي حكومي ووحدة خدمات وأبحاث تابعة للمركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا ويعمل بشكل وثيق مع المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية. ووفق ماري دومينيك نينا مديرة المركز الذي يعود إنشاءه لعام 1990 فإن من أبرز انجازته الأثرية، اكتشاف الآثار الغارقة تحت سطح البحر و آثار صهاريج قلعة قايتباي. أما آخر اكتشافات المركز الأثرية فهو موقع خاص بمزرعة لإنتاج النبيذ يعود للقرن الأول الميلادي، كما تم اكتشاف موقع بجوار برج العرب يحتوي على منازل ومعابد.
ومن أهم الاكتشافات الأثرية التي أُعلن عنها، لوحة من الفسيفساء تعود إلى موقع بالقرب من محطة الرمل، ومداها الزمني يرجع إلى القرن الثاني الميلادي، وقد وجدت في أرضية لغرفة طعام وتم إدراجها بالمتحف القومي للإسكندرية.
وبسؤالها إذا ما كان يتم تنظيم معارض متنقلة خارج مصر لعرض هذه الاكتشافات.. أجابت نينا مديرة المركز أن القانون المصري يحظر خروج هذه الآثار للخارج، ولكن نتاج هذه البعثة يتم إدراجها بالمتحف القومي للإسكندرية، والمتحف المصري ومتحف الخزف بالفسطاط.
وإذا كان عمر مركز الدراسات الإسكندرية هو 28 عاما فإن بعثة أثرية أخرى تعمل مع المعهد العلمي الفرنسي يكاد عمرها يبلغ نصف قرن من العمل الأثري في مصر، تتمثل في المركز الفرنسي المصري لدراسة معابد الكرنك، وهو بعثة فرنسية تعمل بمصر منذ 1967 داخل معبد الكرنك، ووفق كريستوفر تيير مدير المركز فإن برامجهم الأثرية لترميم وإعادة بناء بعض الآثار بالكرنك، ويعملون بالتعاون مع الجامعات الأوروبية والمركز الوطني للأبحاث العلمية في فرنسا والمعهد الفرنسي للآثار الشرقية ويتم دعمه من قبل وزارة الخارجية الفرنسية. أما آخر اكتشافاتهم الأثرية فهو مكان سكني داخل معبد الكرنك عاش فيه المسيحيين من القرن الرابع وحتى القرن الخامس الميلادي مع بروز المسيحية كديانة في مصر.
لكن جهود المعهد العلمي للآثار الشرقية بمصر لا تتوقف عند تدشين هذه الأيام الأثرية وتقديم البعثات، فهذا القصر التاريخي يضم معملا كيميائيا بأحدث التقنيات العلمية، ويحتوي على مختبرين، أحدهما لدراسة المواد وآخــر يحدد الزمن الخاص بها، ويبدأ العمل على العينات القادمة من مواقع الحفريات حيث يتم تنظيف العينة أولا، ثم يتم استخدام الأحماض للتخلص من أي ملوثات، ثم البحث عن المواد العضوية، بعدها يتم تحويل العينات من الصورة الصلبة للصورة السائلة وتحويلها لبنزين بحيث يتم استخلاص الكربون الموجود بالعينة حتى يتسنى قياس إنبعاثات جزيئاتها باستخدام الكربون المشع. وغالبا ما تستغرق عملية القياس تلك من 3 إلى 4 أسابيع على حسب نوع العينة لمعرفة عمرها الزمني ولأي فترة تعود.
وعلى النقيض من برودة المعمل وما يمثله من حداثة وعصرية، ثمة مبنى خلف القصر يفيض دفئا وألفة رغم هدير الآلات الذي يمكن أن تستدعيه وأنت تتجول في مطبعة المعهد الفرنسي، والتي يمكن معرفة تاريخ تطور الطباعة عبر جولة فيه حيث المكن تتم صيانته وقابل للعمل، وهو ما تؤكده ليليان أمين مُساعد قسم النشر بالمعهد العلمي الفرنسي التي تشير لجهود إيميل شاسينا مدير المعهد بدءا من 1898 ولمدة 14 عاما. كان ولعه بالهيروغليفية قد بلغ مداه حين رسم بيده الحروف الهيروغليفية، ولم تكن هناك آنذاك مطبعة هيروغليفية، وكان يتمنى إنشاء دار نشر كاملة تتبع المعهد العلمي وتضم محررين وعاملين بالإخراج الفني. ولا ينقضي العام 1907 إلا ومبنى المطبعة يضم بين جنباته عاملين يقومون بجمع الأحرف وتصفيفها.
رسم شاسينا بيده رموز اللغة الهيروغليفية، وكانت مطبعة المعهد الأكثر دقة على مستوى العالم لوضوح شكل الحرف الهيروغليفي بكل تفاصيله التشكيلية، وكان التجميع يتم يدويا ثم يتم لف مصفوفة الأحرف بحبل حتى لا تنفرط تلك الأسطر. وكانت مطابع المعهد تعمل باستخدام الرصاص بعد صهره ومروره عبر حمام ماء بارد، وتتبع المطبعة وزراة التربية والتعليم العالي والبحوث والابتكار الفرنسية، وتتم صيانة هذه الطابعات بشكل دوري وكلها صالحة للعمل.
أخيرا.. نعرج على مكتبة المعهد والتي تخدم متطلبات الباحثين في مختلف التخصصات (آثار ، مسكوكات، تاريخ بلاد الشرق..)
ووفق أنييس ماكان مديرة المكتبة فإن مقتنيات المكتبة تنامت على مدار نشأتها منذ عام 1909 حين استقرت المكتبة بقصر المنيرة، وأغلب كتبها في البداية كان قد تم إهداءه للمعهد وبمقدورنا أن نجد كتب مهداة من توقيع مولعين بالحضارة المصرية أمثال مارييت باشا وماسبيرو.
والقاعة الكبرى وحدها تضم أكثر من 12 ألف كتاب، ويعود تاريخ أقدم الكتب لمكتبة المعهد العلمي الفرنسي إلى 1496، وهو غير متاح للعرض بل محفوظ بالأرشيف، ورغم احتواء المكتبة على 90 ألف كتاب بمختلف اللغات؛ إلا أن أكثر ما تحتفي به آنييس هو نسخة أصلية من كتاب وصف مصر. ذلك الكتاب الذي قررت الحكومة الفرنسية في 6-2-1802 أن تقوم بنشره وطباعته على نفقتها وعبر لجنة علماء كانت تؤدي مهامها العلمية في اللوفر بدأ العمل في تحرير ونشر تلك الموسوعة، وكُـرست 6 آلات طباعة أُنتج لها نوع خاص من الورق في مدينة أرش بأبعادٍ جديدة غير المعتاد استخدامها، واستخدمت آلة طباعة جديدة اخترعها كونتييه تسمح بتحقيق مؤثرات الظلال والضوء المطلوبة ورسم الخطوط الرفيعة والنقوش الغائرة. حتى تم اصدار كتاب وصف مصر أو كما كان عنوانه الأصلي (مجموعة الملاحظات والأبحاث التي أجريت في مصر أثناء حملة الجيش الفرنسي)، وقد استغرق هذا الكتاب الموسوعي بأجزائه الكاملة في طبعته الأولى حوالي ربع قرن من التحرير والاعداد والطبع (1803 – 1828). قُسَـم إلى 3 أجزاء، الأول للآثار والمعابد والثاني يتعلق بالحياة اليومية والثالث يختص بالتاريخ الطبيعي حيث رصد مصر ومدنها وفنونها وموسيقاها، وسجل الأمور الزراعية والصناعة والتجارة والمقاييس، وطبيعة أرضها وطبقاتها ونباتها وحيوانها وطيورها وأسماكها، وعادات أهلها وتقاليدهم.
تقلب آنييس بقفازها الأبيض بكل إجلال صفحات كتاب وصف مصر. ذلك الكتاب الذي وصفه جيوفري سانت هيلر أحد علماء الحملة الفرنسية بأنه (المؤلَّف القيِّـم النادر الذي سوف يُـعــزّي الفرنسيين أنفسهم بوجوده عند التأسي على مصير محاربيهم الذين قضوا في الحملة على مصر، أو هو المنجز الذي سيغفر في نظر الأجيال اللاحقة طيش الأمة الفرنسية ورعونتها وهي تندفع نحو المشرق.)
انقضى الإرث الكولونيالي وبقي دُرَّة مؤلفات التاريخ والأنثربولوجي وكشوف البعثات الأثرية يُـماط عنها اللثام بين جنبات المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بحي المنيرة.