ثقافة
الأفلام التسجيلية في أسبوع الفيلم البرازيلي..وثائقيات المـيـتافـيلم

بين أربعة أفلام عُـرِضت ضمن أسبوع الفيلم البرازيلي المعروض بسينما زاوية يتصادف وجود فيلمين مميزين تشاركا في أنهما فيلمين عن فيلمين.. الفيلمان تناولا القمع ومواجهته ومحاولات كشفه في البرازيل عبر تاريخها، ورغم انتماء الفيلمين لفترتين زمنيتين متباعدتين، إلا أن كلاهما يحمل إشارة لما يمكن للكاميرا أن تفعله من كشف للحقائق التي طمرها الزمن والنسيان.. منطقتي شاهدت هذين الفيلمين.
(1) الفيلم البرازيلي Gilda Brasileiro .. ضـد النسيان.
من الممكن أن تركن لملخص الفيلم في المنشورات الدعائية الخاصة به حين نقتبس:
“تكتشف جيلدا برازيليرو وثائق عن نقطة تجارة رقيق غير قانونية في الغابات البرازيلية، حيث تم استعباد مئات الآلاف من الأفارقة. تبدأ جيلدا البحث في ذاكرة العبودية بداخل أكبر منطقة لزراعة البن في المنطقة في القرن التاسع عشر.”
لكنه اقتباس مخل وتبسيط يظلم الفيلم ولا يوفِّه قدره الإبداعي والفني؛ إذ إنه يركِّـز عل الموضوع الهام الذي يدور حول تاريخ الاستعباد في البرازيل، ويتجاوز عن معالجته الإبداعية وطرحهالفني الخلَّاق..
يفتتح الفيلم بإمرأة تمسك بقميص رجل يمسك الكاميرا في غابة مطيرة بمصاحبة فني صوت ورجل ثالث، في موكب يضم فريق عمل تقنيلإنجاز أحد الأفلام.
يليه مشهد لنفس السيدة أمام شاشة حاسبها الآلي وعليه صور لوثائق ومراسلات تعود للقرن التاسع عشر وتحاول جاهدة أن تبقى متماسكة وهي تقول: “لابد للناس أن تعرف الحقيقة”. ثم تنهار وتجهش بالبكاء.
ثم مشهد آخر وأخير.. طابعة إلكترونية تقوم بطبع صورة عالية الجودة بالأبيض والأسود لرجل إفريقي الملامح تملأ الكادر قبل ظهور تترات البداية.
كاميرا ووثيقة وصورة.. أيُّ سعادة وأيُّ حظٍ يمكن للفنان التسجيلي أن يحوزهما حين يمتلك هذه العناصر الثلاث؟
هكذا يؤسس كل من “روبيرتو مانيانز رايز“و“فيولا شوير“ لسردهما في هذا الفيلم الذي يدور حول كشف تجارة الرقيق وتريخ الاستعباد في البرازيل في القرن الماضي.
فلسنوات ظلت حالة من الإنكار لما كانت عليهتجارة الرقيق غير الشرعية في منطقة وادي بارايبا.. الكل ينكر أن ثمة عبيد أتوا لهذه المنطقة ليعملوا في زراعة البن البرازيلي.. ولا أحد يريد الاعتراف بأن تلك النبتة التي توفر المزاج المعتدل للعالم قد زُرعت بالاستعباد.
تحاول “جيلدا بيرازيليرو” الصيدلانية أن تكشف جذور هذه القضية، وتتبع آثار طريق تهريب الرقيق السري، وتقوم ببحث تقدمه إلى مسابقة تاريخية بعنوان “استكشاف البرازيل” أو Revelando os Brasis وتفوز فيها وتقوم بإنجاز فيلمها الأقرب للتحقيق الإستقصائي التاريخيحول العبودية في البرازيل بعد ورشة مكثَّـفة لصناعة الأفلام.
ويتابع صناع العمل رحلة “جيلدا“ لصناعة فيلمها الاول.. شغفها وإيمانها بالقضية، مقابلاتها مع المصادر، التسجيل في الأماكن التاريخية وتحمُّـل ظروف التصوير الصعبة، حمايتها للكاميرا والمعدات أثناء الأمطار التي فاجئتهم.. لكن “روبيرتو“ و“فيولا” يستعينانبتراث التصوير الفوتوغرافي الذي اقتضى في ذلك الوقت وقوف الأشخاص ثابتين أمام الكاميرا كي لا يظهروا بمظهر الأشباح. فتُطمس وجوههم وتتبدد ملامحهم.. وهذا ما فعله مارك فيريز (1843-1923) المصور البرازيلي الأشهر في القرن التاسع عشر، والذي استعانا بصوره “روبيرتو” و”فيولا” حيث اشتهر بصوره البانورامية والتي تناولت المناظر الطبيعية الريفية والعبيد الذين يعملون في المزارع.
من بين صوره التي يستعرضها الفيلم كانت إحداها لصفوف العبيد أمام مستودع/ بيت قديم كان يأويهم قبل انطلاقهم لوجهتهم التالية، وهو نفس المكان الذي تنطلق منه “جيلدا” في رحلتها الإستكشافية.. لم يتغير المكان كثيرا.. لكنه أضحى مزارا سياحيا تقام فيه الأعراس.. ربما أشار ذلك لإبتذال المأساة التي حدثت هنا منذ عقودٍ مضت.. السلاسل المتدلية من السقف والقيود المثبَّـتة في الحائط ستكون خلفية لصور السيلفي التي يلتقطها السائحون، تنسجم هذه اللقطة مع وجود كانتين صغير لبيع الحلوى والمشروبات في المنزل/ المتحف ستظهر في خلفية المتحدثين من ضيوف المنزل وملَّاكه.. في إلماح إلى تسليع التاريخ وترويج المأساة القديمة على دمويتها.
في سبيل إنجازها لفيلمها تقوم “جيلدا” بزيارة المتحف، وتسأل هل كان رجل الدين ومالك المنزل الأخير يُسهِّـل تجارة الرقيق؟ القائمون على المنزل وورثته ينكرون هذا رغم وضوحه.. أو على الأقل لا يريدون تأكيده. لكن مقابلات “جيلدا” المستمرة مع أساتذة تاريخ وثُلَّـة من أهالي وادي بارايبا ستؤكد ذلك؛ حينما يخبرونها عما سمعوه عن حكايات العبيد من آبائهم وأجدادهم حول معيشتهم وطرق كيّهم بالنار للدلالة عل انتمائهم لمنطقة معينة. سيخبرونها بهذه الحقائق وهم يحتسون القهوة المصنوعة من بن المزارع البرازيلية التي كانت حولهم ذات يوم، ومبدين رأيهم في جودتها.
ولا ينس المخرجان تذكيرنا كل حين بتطور قوانين تجارة الرقيق وتحريمها في البرازيل أو في العالم بالتوازي مع رحلة بحث “جيلدا” وهي تقتفي أثر الطريق الذي قام بإنشائه عبيد مزارع البن الذين مكثوا لفترة في المستودع الكبير.
وفي سرد موازي يتسائل “روبيرتو“ بصوته الرخيم عن سبب وقوف المزارعين الأفارقة في وضع مسرحي عند استعراضه لصورة أخرى من تراث “فيريز“ الفوتوغرافي.. كانوا يتوزعون في الحقل بجوار الأجمات بسلالٍ فارغة وبلا محصول البُـن، هم هنا لالتقاط صورة فحسب.. كأنهم رهن الاعتقال.. نوع آخر من الإحتجاز لحين قيام “فيريز” بعمله.. يستعرض “روبيرتو” و”فيولا” مخرجا الفيلم هذه الصورة بشكلٍ أقرب للديكوباجالسينمائي أو تقطيع المشاهد السينمائية.. فبعد لقطة تأسيسية طويلة وبطئية يتم تجزئة الصورة للقطات متوسطة وأخرى قريبة. نرى فيها العبيد يشخصون للكاميرا في يأس صامت. حبس على حبس وقيدٌ على قيد. لا نعلم هل نحن من ننظر إليهم لنشهد حكايتهم، أم أنهم هم من ينظرون إلينا نحن جمهور القاعة.
ستتكرر نفس الشخوص في أماكن أخرى وصور أخرى ولكن بأوضاعٍ مختلفة، وبنصٍ شاعري يُـسائِل “روبيرتو” الصور تارة، ويلفت نظرنا تارة لفتاة سمراء تظهر بنفس الزي كل مرة. ترتدي تاييرا متهالك بخطوط مقلمة وعلى وجهها نفس نظرة الحزن. سينبهنا لمزارع أبيض البشرة وسط الجموع ويسأل إن كان تم أسرِه هو الآخر؟ وما الذي أوقعه في ركب الاستعباد؟ وسيلفت انتباهنا لمشرفي المزارعين الذين لا يشبهونهم في السمت أو الملامح أو اللون، ويتميزون عنهم بصحةٍ موفورة وبـسـطة في الجسم.
يرصد الفيلم عثور “جيلدا” على خطاب من رجل الدين ومالك المستودع يوجهه لأحد الأصدقاء. ذاكرا فيه كيف استخدم العبيد المزارعين في تعبيد وشق الطريق المؤدي للميناء عبر الغابة المطيرة. وتصف فرحتها الكبيرة عندما وجدت دليلا على فرضيتها. عبيد يعبِّـدون طريقا لكننا لا نعلم أين انتهى بهم طريقهم.
فكرة البحث عن الأصول يتشاطرها كل من المخرج “روبيرتو مانيانز رايز“ و“جيلدا“ المخرجة بطلة فيلمه، هو بتسائله عن أصوله الإفريقية وهي بذكرها لأصولها فهي ابنة لأب من أصل أفريقي وأم يهودية ألمانية. بما يضعنا أمام باقة أعراق وأديان تتسلل بالجينوم إلى أبناء الحاضر.وليصبح للفيلم سؤال أكبر من فكرة الحرية إلى البحث عن الهوية.
أحدس أن الفيلم كان للبحث عن الذات حين استنطق “روبيرتو” صور أجداده المحتملين.. المخرج الذي ينتمي لأصول إفريقية هو الآخر يستنطق هاته الصور الفوتوغرافية ويُسائلها.. حتى أنه ينهي فيلمه بصورة لفتاة تضحك في مزراع البن.. وهي الوحيدة التي جرت وانطلقت مع كلبها، وهي الوحيدة التي نجت رغم ذلك من الشبحية المحتملة ومن طمس ملامحها أثناء ركضها المتحرر وفق حتمية قانون التصوير وتقنية الكاميرا حينها.. ويسأل “روبيرتو” نفسه: هليمكن لتلك الفتاة الضحوك أن تكون جدتي؟ وهلكانت توجِّـه لي هذه الضحكة؟
فيلم “جيلدا برازيليرو” يحمل تحية دفينة لفن الوثائقية سواء باستنطاق الوثائق القديمة، أوبطغيان حضور الصورة الفوتوغرافية، والأهم.. كونه يتابع صناعة فيلم وثائقي يكشف الحقيقة المطمورة لعقود بعيدة فيذكِّـرنا بدور الفن التسجيلي حين يوثِّـق ويعيد إحياء المنسي والمهجور أو حين تصبح غايته كما العنوان الفرعي للفيلم.. “ضـد الـنـسـيان”.
تيزير الفيلم :
https://vimeo.com/367708110?fbclid=IwAR0o7Lgcse7z4kxIH1OXRAJYYyur3B7evDSHKjcwMXD2mftNsnIqKBoUzz4