ثقافة
الجزء الثاني.. الأفلام التسجيلية في أسبوع الفيلم البرازيلي.. وثائقيات المـيـتافـيلم

بين أربعة أفلام تسجيلية عُـرِضت ضمن أسبوع الفيلم البرازيلي المعروض بسينما زاوية يتصادف وجود فيلمين مميزين تشاركا في أنهما فيلمين عن فيلمين.. الفيلمان تناولا القمع ومواجهته ومحاولات كشفه في البرازيل عبر تاريخها، ورغم انتماء الفيلمين لفترتين زمنيتين متباعدتين، إلا أن كلاهما يحمل إشارة لما يمكن للكاميرا أن تفعله من كشف للحقائق التي طمرها الزمن والنسيان.. منطقتي شاهدت هذين الفيلمين.
(2)
الوثائقي البرازيلي “عشرون عاما مضت”.. يطير الفيلم ويبقى الحلم!
في عام 1985 تذهب جائزة الفيبريسكي إلى فيلم “عشرون عاما مضت” للمخرج البرازيلي “إدواردو كوتينيو” وذلك في مهرجان برلين السينمائي الدولي. الفيلم الروائي الذي طارده صانعه في كل أطواره منذ أن كان فكرة، ثم مادة مسجلة على الخام السينمائي، ثم أصبح فيلما تسجيليا بعد قُـرابة العشرين عاما؛ هو أكبر مثال على ما تفعله القضية حين يلتزم بها الفنان، وعلى الفكرة حين تأسره وعلى الحلم حين يلاحقه فلا يفتر إحساسه نحوه حتى بمرور عشرين عاما.

دعنا نكون عمليين وإجرائيين كما كان المخرج “إدواردو كويتينو” ونبدأ مباشرة بفيلمه:
تشهد الستينيات في البرازيل حراكا إشتراكيا ينجم عنه حركة ثورية للفلاحين في مواجهة جشع الملّاك وأصحاب الأراضي، ويظل “جواو بيدرو تشيرا” متزعما لهذه الحركة وتطارده السلطات حتى تغتاله في عام 1962. يلتقط “إدواردو كويتينو” هذا الحدث ليحقق فيلما روائيا عن هذه الواقعة التي يجدها فكرة درامية بإمتياز، حيث القوى المتناحرة في صراع ملتهب بحبكة قوية، مُـلّاك أراض في مواجهة المزارعين وحقوق منهوبة وأجواء محتدمة ومواجهات بين الطرفين وسلطة أمنية تنتصر لأحد طرفي الصراع. ولمزيدٍ من التثوير يقرر “إدواردو كويتينو” المخرج الشاب (حينها) أن يستعين بالأبطال الحقيقين لهذا الحدث، وها هي “إليزابيث تشيرا” أرملة الزعيم المغتال توافق على أن تقوم بدورها في الحقيقة، ويستعين المخرج بأعضاء الحركة الإحتجاجية من المزارعين ليقفوا أمام الكاميرا لأول مرة في حياتهم ليجسِّـدوا كفاحهم وليعيدوا سرد ما مرُّوا به من أحداث واقعية، ولكن في صيغة روائية مما يستوجِـب إعمال بعض التخييل وإضافة بعض المتبلات الدرامية.
لكن أي من هذا لم يكتمل؛ إذ أدى انقلاب الجيش البرازيلي على السلطة إلى الاطاحة بالرئيس المنتخب “جواو غولار“ الذي كان مدعوما من الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1964. ولتشهد البرازيل حكما دكتاتوريا استمر نحو عقدين من الزمان.
سيكون من الملائم إذًا؛ بل من المتوقع أن يتوقف مشروعا ذا نكهة إشتراكية مثل فيلم “كويتينو” يناصر الفلاحين ويدعم نضالهم، بل يتم القبض عليهم خاصة من شارك منهم بالفيلم. ولتتحفّظ السُـلطات على المادة المصوَّرة والشرائط الخام التي سَجَّـل عليها المخرج أغلب قصته.
ربما انتهت فرصة خروج هذا الفيلم بتغـيُّـر النظام السياسي ومصادرة الشرائط التي تحمل قصته.. وربما تناسى “كويتينو” حلمه بإنجازه فيلمه الروائي والذي كان من المقدَّر له أن يكون لافتا. وهو ما سنتبيَّنه عندما نرى عشرات المسلسلات التليفزيونية والأفلام ما بين التسجيلية والروائية في الفيلموجرافيا الخاصة به، تنوعت أدواره فيها ما بين الإخراج والكتابة والحوار والإدارة الفنية، وتميزت أغلبها بجودتها الفنية وأصالتها كما تخبرنا به مسيرته الفنية التي استمرت حتى عام 2014.
هل تنتهي الدراما هنا؟؟
ربما ينتهي مصير الفيلم الروائي عند هذه النقطة، لكن دراما الحياة تحمل مفاجآت أكبر. فبعد مصادرة فيلمه توجّه “كويتينو” إلى العمل في الانتاج الدرامي التليفزيوني، وشارك في كتابة العديد من الأفلام السينمائية.. حتى بانت في الأفق بوادر التحول الديمقراطي في البرازيل مع بداية الثمانينيات وليسترد الشرائط الخام المصادرة، وليقف “إدواردو كويتينو” لأول مرة أمام فيلمه بعد عشرين عاما.
ماذا يفعل بنصف فيلم مـرّ عليه عقدين من الزمان؟ كيف سيكمله؟ وكيف صار أبطاله؟ وأين هم الآن؟ بل أين فيلمه نفسه؟؟

إذا كان من الصعب على “إدواردو كويتينو” إحياء فيلمه الروائي؛ فإنه من الممكن إنجاز فيلم تسجيلي عن فيلمه الروائي. هكذا لن تذهب مادته السردية سُـدى، ولن يهدرها. بل سيستثمرها جاعلا تقادُمِها الزمني سببا لتميزها. سيحكي في الفيلم عن الفيلم، وسيخلق الدراما من رحم الواقع ناهيك عن وجود مادة درامية وروائية معه بالأساس. ولتبدأ رحلة بحثه وليبدأ فيلمه.
يتتبع “كويتينو” أبطال فيلمه ومآلاتهم.. أين صار مقامهم بعد كل تلك الفترة؟؟
سيبدأ ببطلة فيلمه “إليزابيث تشيرا” أرملة المناضل السابق.. ولن يجدها هي أو أيٍ من أبنائها الإثنى عشر.. ستتفرق بهم السُـبل.. ولا أحد يعرف أين ذهبت، ولا يملك إلا صورة فوتوغرافية لها وهي تحمل طفلة صغيرة وقد تحلَّـق حولها أطفالها من مختلف الأعمار.. أمـا من بقي من الفلاحين في قريتهم فقد جرى عليهم الدهر وتغضّنت وجوههم من فِرط القهر، لكن أساريرهم ستتهلل وستنفرج أفواههم عن ابتسامات واسعة وضحكات رنانة فترى أسنانهم وقد تساقط بعضها غير مصدقين أنهم يرون أنفسهم من عشرين سنة على الشاشة حين يقوم “كويتينو” بإعادة عرض مشاهد الفيلم الروائي الذي قاموا بتصويره منذ عشرين عاما.. يضحكون على أنفسهم وحسرات دفينة تتولد على شباب ولى وصبا تداعى. وستكون متعة الفيلم الخفية هي تلك المقارنة بين شباب البشر في الفيلم الروائي وكهولتهم في الفيلم التسجيلي.

لا وقت للنضال الآن.. فقط عمال حقل ومزارعين يسعون لجلب رزقهم غير واثقين في بوادر التغيير الذي يجري على الساحة السياسية.. وحين يعثر “كويتينو” على أحد أبناء “إليزابيث تشيرا” يبدأ في البحث عن باقي أخواته.. وتقوده المصادفة إلى بطلة فيلمه وأرملة المناضل وقد مُـنحَـت اسما جديدا وعاشت بعد الإنقلاب بهوية جديدة وفي مكانٍ بعيد وعملت مدرِّسة، لتنقلب حياتها رأسا على عقب بعد ظهور “كويتينو” فينكشف سرها ويقام لها عرضا سينمائيا لمَشَـاهِـدها في الفيلم هي الأخرى.
بعد ذلك يحاول “كويتينو” أن يتواصل مع من يجد من أبناء “إليزابيث” وقد كبروا رجالا ونساءا، فيريهم صور أمهم ويُسمعهم تسجيلاتها الصوتية الحديثة التي أجراها معها حين عثر عليها. في محاولة منه للم شمل هذه الأسرة التي فرّقتها السياسة وجنت عليها الأيدولوجيا.
اعتمد “كويتينو” على أسلوب التحقيقات الإستقصائية وكان يدير الحوار مع مصادره مستفيدا من عمله كمراسل تليفزيوني،وكثيرا ما واجه رفض مصدره للتصوير حين يباغته بفريقه، فثلاثة أفراد يحمل أحدهم ميكروفون وثانيهم يحمل مسجلا للصوت بينما الثالث يحمل كاميرا يربكون أي إنسان، كانت الكاميرا توثِّـق هذا الرفض المبدئي لمصدره فنرا “كوتينيو” يحاول اقناعه منفردا ثم يعاودا الظهور معا على الشاشة وقد لانت أساريره وتجاوب منطلقا للرد على استفسارات “كويتينو” الذي أنجز عشرات الأفلام التسجيلية الهامة وكتب قصص أفلام روائية لشاشة السينما ورحل عن عالمنا طعنا على يد ابنه في 2 فبراير 2014.
نهاية درامية جديرة بحياة مخرج ظل يرواح بين الواقعي والخيالي ويستنطق كلاهما من الآخر. يستمد الروائي من الحقيقي ويبحث عن الحقيقي فيما وراء الروائي.
Film teaser: