
ضمن برنامج مركز التحرير الثقافي بالجامعة الأمريكية عُـرض مؤخرا فيلم “رمسيس راح فين” للمخرج عمرو بيومي.
الفيلم الذي حاز على جائزة مهرجان الإسماعيلية في دورته الواحدة والعشرين في 2019 يوثِّـق لمسيرة تمثال الملك الراحل من ميدان رمسيس وحتى مستقره الأخير قبل انتقاله إلى المتحف المصري الكبير. كما يوثِّـق الفيلم لتاريخ الرؤساء والملوك في الذاكرة الجمعية المصرية. كيف تمثَّـلوا في صورة الأب، ولأي مدى نجحوا أو فشلوا في أداء واجباتهم نحو الشعب من خلال مقاربة بين علاقة الراوي بأبيه وعلاقة المصريين برؤسائهم.

بحِـس تسجيلي عالٍ يحتفي بالوثيقة ويعتمد عليها يقتفى “عمرو بيومي” أثـر السلطة في حياة المصريين، وكيف كانت انطباعاتهم تجاهها ممثلةً في عبد الناصر، ومن بعده السادات، ثم مبارك. الفيلم اتخذ من ليلة انتقال رمسيس منطلقا للسرد، وتتبع تحرّك التمثال من ميدانه في جنازة ملكية مهيبة أصرَّ فيها المهندس “أحمد حسين” المشرف على تلك المهمة أن يتم نقله كاملا، لا أن يتم تفكيكه وتجميعه مثلما حدث أول مرة في الميدان سنة 1954 بعد أن تم استقدامه من ميت رهينة.
المثير في الأمـر هو عدم انبهار المخرج “عمرو بيومي” بمادته التي صورها هو وزميله المصوِّر “مجدي يوسف”. نحن أمام حدثٍ تاريخي، لن يتكرر ثانيةً، وكان من الممكن أن يكتفي صانع العمل بندرة مادته التي صورها كعنصر جذب للمشاهدة، أو أن يختار بناءً بسيطا لسرد قصته (وهو ما حدث في المعالجة الفنية الأولى للفيلم حين جعل من رمسيس راويا لقصته)، لكن “بيومي” يبتدع في فيلمه سردا مركبا نـواتـه علاقته المرتبكة بأبيه، ومــداراتـه علاقة المصريين بحكّامهم، طارحا أسئلته حول السلطة بمفهومها الواسع وتصوراتها العامة.

يعتمد “بيومي” في سرده على خطاب أرسله أبيه إليه يُبيِّن فيه أسباب توتر العلاقة بينهما، ويعلق “عمرو” الابن على الخطاب الذي لم يقنعه بتبريراته متسائلا عن حدود سلطة الأب/ الحاكم على حياة الابن/ الشعب. هل هي مجرد وصاية أبوية أم أنها ترهيبا؟ هل هو حقا سعي للصالح العام أم أنه محاولة لإخضاعه لإرادته؟ في الفيلم يتخذ “عمرو بيومي”من أبيه حيلة فنية لاستطلاع الرأي حول رموز السلطة، ونلمح حسًـا نقديا خافتا يُـضمنِّـه “عمرو” على لسان أبيه حين يذكر رأيه حول الحكام الذين تناوبوا على حكم مصر. فمبارك (جات له لوزة مقشرة)، في حين أن السادات يحاول الاستحواذ على لقب الملك “رمسيس” الذي عُـرِف أيضا كبطل للحرب والسلام، بينما يتذكر الصبي “عمرو” كيف كان يوم وفاة “عبد الناصر”، وكيف تم تسريح الطلاب من المدارس وكيف اتَّـشحت المعلمات بالسواد حزنا عليه. أمـا يوم اغتيال “السادات” فقد عاينه بنفسه منقولا في بث حي على الهواء مباشرة قبل أن ينقطع الإرسال.

وكرجل مسن مصري قياسي عاين أحوال البلاد منذ عهد الملكية وحتى الألفية الجديدة؛ يرى الأب أن 25 يناير فوضى، في حين يراها الابن الذي عرف طريق الحرية ثورة نقية سيتذكر من خلالها تجربة التجنيد التي تستهدف “كسر الذات المدنية وبناء الشخصية العسكرية” في مواجهة أخرى بين الشعب وحكامه عبر خبرته الشخصية في سنوات الخدمة بالجيش. هنا يُقدّم عمرو خبرته كمواطن مع السلطة وكمجند عسكري، وليخرج بعدها الشاب “عمرو” مواجها الحياة ومكتشفا العالم عن طريق السفر، بعد أن يذهب لرؤية صديق طفولته الملك “رمسيس” في ميدانه. ذلك التمثال البالغ وزنه 83 طن والذي سيوثِّـق “عمرو بيومي” لانتقاله في العام 2006.
الجهد البحثي والأرشيفي يتم التوثيق له في الفيلم أيضا من خلال التقاط مشاهد لصانع العمل أثناء بحثه في الشرائح المصوّرة والميكروفيلم. يشركنا معه في مئات الوثائق والقصاصات، ثمة تحية في هذا الفيلم لفن الوثائقية وللسينما التسجيلية ولروح المحقق التي يعتمد عليها هذا الفن، كذلك يبني الفيلم عنوانه وفكرته الأساسية على مادة أرشيفية من خلال إعلان كارتوني للفنان “مهيب” كان يذاع في تليفزيون الدولة، ويختار “عمرو بيومي” أن يغرسه في بداية فيلمه وفيه تتساءل شخصياته: رمسيس راح فين؟؟ ليدخر لنا الإجابة في آخـر الفيلم.
بـوح شخصي وموضوع عام
صوت رخيم وإفضاء متمهِّـل يسري بطول الفيلم، فيسرد أصداء سيرة ذاتية وينسجها بسيرة جمعية، أيديولوجيات ومشارب سياسية تتبدل بتغير قمة هرم السلطة في مصر، وعلاقة أبوية تفتر وتتوهج. مرة بفعل الوصاية وأخرى بحكم الإشفاق، وصور شخصية ولقطات أرشيفية يمزج فيها الخاص بالعام، وفي حين يسرد “عمرو بيومي” بعض من تاريخه الشخصي، نجده يمر على سيرة الوطن أو ربما كان العكس، ربما أراد أن يسرد تاريخ وطنه ويمر على سيرته الذاتية عبر اصطياد ملمح هام ووحيد فيها.. “الـسـعـي للـحـريـة”.. كيف ينفلت الابن من إحكام قبضة الأب على حاضره ومستقبله.
لعبة الزمن
يؤقِّـت “عمرو بيومي” لقرار صناعة فيلمه بتاريخ وصول الإخوان لحكم مصر، ويصفها بلحظة “اللا أمـل”. ويعود بالزمن لتقصِّـي تاريخ الميدان وكيف كان شكله قبل حلول “رمسيس” فيه، وكيف كان استقدامه مُجزءً، وكيف أزاح تمثال نهضة مصر للفنان “محمود مختار” ليحل محله، في سياحة تاريخية وتشكيلية قوامها الصور النادرة بخلاف رصده لعمران المدينة الذي طالته التحولات والتشوّهات، ففي فيلمه الذي بدأ تصويره في العام 2006 وظل حتى العام 2013 لا يعرف ماذا يصنع بهذه المادة الفيلمية المصورة أثـر “عمرو بيومي” عن عمدٍ أن يتركه للزمن، حتى يتقادم الحدث نسبيا في ذهن المصريين وفي الذاكرة البصرية المصرية المعاصرة ليقفز مجددا في 2015 لبؤرة الوعي ويقرر أن يصنع فيلمه أخيرا.

ويستعين الفيلم ببعض المقابلات مع أساتذة تاريخ ومهندسين يجريها “عمرو بيومي” بنفسه، وفي حين يُـرجِـع الدكتور “عماد الدين أبو غازي” أستاذ المكتبات ودراسات الوثائق بجامعة القاهرة، نقل التمثال للضرورة العمرانية حيث زادت من حوله الكباري وحاصرته، وكذلك تأثُّـره بعوادم السيارات والتلوث، فإن المهندس “أحمد حسين” والذي قام بنقل التمثال لفت الانتباه لرغبة الرئيس الأسبق “حسني مبارك” في أن تحمل محطة مترو رمسيس اسمه هو لا اسم ملك مصري قديم، حيث من غير المعقول (وفق روايته) أن يكون هناك حاكمين لمصر في نفس المكان، الأول “رمسيس” فوق الأرض والثاني “مبارك” تحتها في الأنفاق. ليعكس صراع العمران والتخطيط العمراني صراع الحكام. ولا يفت “عمرو بيومي” أن يشير في فيلمه إلى فتوى تحريم اقتناء التماثيل التي كانت قد صدرت عن مشيخة الأزهر بالتزامن مع نقل التمثال في 2006.
كانت الكاميرا المتلصصة تراقب أعمال تجهيز نقل التمثال من على كوبري المشاة الموجود في الميدان، واستطاع “بيومي” أن يجري استطلاعا للرأي مع الجماهير حول نقل التمثال، حيث استنكر واستغرب الكثيرون أن يترك رمسيس مكانه وهو بالنسبة لهم تلك العلامة البصرية الهامة وبخاصة ممن يتوافدون على القاهرة من الأقاليم في محطة مصر، ليكون الملك رمسيس في استقبالهم.. تسمع لهجات مختلفة وترى وجوهًا بعمائم وأفرادا بجلاليب يستنكرون سؤال “بيومي” حول رحيل التمثال الوشيك.

لكن أميز ما يتعلق بعملية النقل هو تلك الأسرار التي كشفها المهندس المصري أحمد حسين المسئول عن نقل التمثال، حيث أصرّ على تضمين ملف نقل التمثال مقدار المخاطرة المتوقعة والتي قدّرها بصفر بالمائة ورغب أن يذكرها في تقريره، ليطابقها بعد نجاح عملية النقل وحتى لا يواجه بأقوالٍ من قبيل أنه نجح بالمصادفة، كما يذكر همسه في أُذن “رمسيس” الملك قبل مسيرة الانتقال ورجائه له ألا يخذله وأن تتم عملية نقله بأمان.
وعلى أنغام موال “بكرة السفر يا حبايب” لمحمد العربي، تبدأ رحلة “عمرو بيومي” في توثيق المسيرة الملكية لرمسيس من ميدانه، إلى شارع الجهورية فشارع 26 يوليو، ثم طلعت حرب، فميدان التحرير، فشارع قصر العيني، ثم كورنيش النيل وأخيرا عبوره كوبري المنيب في اتجاه الجيزة أو البر الغربي. أو كما كان يصفه قدماء المصريون (وادي الأبدية).
جنازة ملكية وجموع غفيرة تحاوط تمثال الحاكم الأقـدم للمصريين وأصوات هتافات وداع، وأعلام تلوح في النوافذ والشرفات، ونداءات باسمه.. يسير “رمسيس” الملك في مهابة وشموخ يشيّعه المصريون لمستقره الأخير والذي لا ينبئنا الفيلم به، وينجح “عمرو بيومي” في أنسنة الحجر، لم يعد رمسيس مجرد تمثال فرعوني توسط البلد لنصف قرن من الزمان، بل جعله كائنا حيا نلوح له نحن أيضا جمهور القاعة مع أنصاره على الشاشة، لنتساءل بدورنا هل نشتاق لزعامة حقيقية بعد توالي زعامات متهافتة، وهل كونه ملكيا فإن ذلك يشكِّل ضمانة ما لنبله، ومتى خرج المصريون في شوارع القاهرة بكل هذا الزخم والاصطخاب؟
مسامع تراثية
شريط الصوت ضمّ تنويعات لحنية كانت نتاجا لورشة عمل موسيقية بين أحمد عمران وولــيـد عــبـده، كما استعان “عمرو بيومي” بأرشيف المركز للمصري للثقافة والفنون (مكان)، ووقع اختياره على بعض تسجيلات مؤتمر الموسيقى العربية 1932، وكانت أغنية “عم يا جمَّـال” هي التي اختارها لتزامن المسيرة وهي أحد تسجيلات (مكان) في 2017.
إكمالا لسؤال: “رمسيس راح فين” المثار في بداية الفيلم يكمل “عمرو بيومي” الإعلان التجاري: “رمسيس راح يجيب آيس كريم”!!
هكذا ينتهي الحال بملك متوّج يذهب ليثلج صدره بمرطبات من صناعة مصر للألبان، ويفاجئنا “بيومي” بحسٍ ساخر بما حدث في مصر وكيف صارت مآلات الأمور وأفول وهج المقولات الكبرى، حتى أن ملكا كرمسيس كان لزاما عليه الرحيل عن المدينة الصاخبة فيتركها خلفه عابرا إلى بوابة الأبدية.
تعليق واحد