ثقافة

“في تشريح الهزيمة” كتاب يحلل هزيمة الخامس من يونيو بعيدا عن “نظرية المؤامرة لضرب المشروع الناصري”

“أنا جبت لكم اسرائيل لحد هنا بعت أقولكم أنهم هيضربوا يوم 5 يونيو الصبح با سيد نديم، طيب انتوا بعتوني هناك ليه؟! ايه اللي حصل يا سيد نديم؟”

ما قراته للتو بضع جمل قالها محمود عبد العزيز- رأفت الهجان، في لحظة امتزج فيها الشعور بالخيبة والخذلان ومرارة الهزيمة، وشعور عميق بان تضحياته لثلاثة عشر عاما في إسرائيل، لم يكن لها أي فائدة بالنسبة لوطنه، الذي أخبر قياداته عن موعد الضربة، لكنها وقعت فعلا، وحفرت في تاريخ مصر والأردن وسوريا هزيمة ساحقة أضاعت أرض والآلاف من الأرواح.

بعد خمسين عاما على هزيمة الخامس من يونيو 1967، صدر كتابا في القاهرة، يجيب عن سؤال رأفت الهجان، ماذا حدث لكي تُهزم مصر، رغم معرفة قياداتها السياسية والعسكرية بموعد الضربة الإسرائيلية، فأصدرت دار مرايا للإنتاج الثقافي، كتاب “في تشريح الهزيمة.. حرب يونيو 1967 بعد خمسين عاما”، شارك فيه ستة باحثين، قدموا ست أوراق تناولت هزيمة يونيو من زوايا عديدة، ليس من بينها تحليل يُرجع الهزيمة إلى مؤامرة خارجية.

أقامت دار “المرايا” حفلا لتوقيع ومناقشة الكتاب، في مساء الخميس 4 يناير الجاري، بمكتبة القاهرة الكبري بالزمالك، حضر الحفل لمناقشة الكتاب مع الجمهور، خمسة من الباحثين المشاركين، وأدار الندوة د. عماد أبو غازي أستاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة.

[us_separator type=”invisible”]
غلاف كتاب “في تشريح الهزيمة”

صدر كتاب “في تشريح الهزيمة.. حرب يونيو 1967 بعد خمسين عاما”، عن دار المرايا للإنتاج الثقافي عام 2017، بمناسبة مرور خمسين عاما على هزيمة الخامس من يونيو 1967، قال الناشر يحيى إبراهيم لـ منطقتي وسط البلد، بأن 2017 كان عاما مليئا بتذكرات عديدة، مرور 100 سنة على وعد بلفور، و 40 عاما على توقيع إتفاقية كامب ديفيد، و مرور 40 سنة أيضا على انتفاضة يناير 1977، وخمسين عاما على هزيمة يونيو 67، وهذه الأخيرة يرى إبراهيم إنها بالنسبة لجيله وأجيال أخرى تالية “حدث مهم ومؤسس للسياسة المصرية بعد كده بشكل واسع، مش بس للسياسة العليا للدولة لكن السياسة من وجهة نظر الناس”، وأضاف بأن “يونيو 1967” هي نقطة فاصلة في علاقة الشعب بالدولة الناصرية، ونقطة فاصلة أيضا في تطور الحركات السياسية بين ما قبلها وما بعدها.

أشار إبراهيم إلى أن إصدار الكتاب جاء لكي يعطي رؤية “أعمق” عن هزيمة يونيو، من وجهات نظر متعددة لباحثين شباب تقدميين ومنحازين لثورة يناير ومتحررين في الوقت نفسه من إرث هزيمة يونيو و “بعيدا عن النوستالجيا الوطنية، وجلد الذات والإحساس بالمسئولية عما جرى”.

وأضاف إن هذا الكتاب مهم “الآن”؛ لأنه يحكي عن الدولة الناصرية “وهي الدولة القائمة حتى اليوم، والمأزق الهيكلي العميق اللي جواها. أحنا بنعيش لحظة نهاية دولة يوليو بصرف النظر عن أنهم قادرين يستمروا ويعيدوا أنتاج نفسهم”.

يوضح ناشر “المرايا” بأن الدار “حديثة العهد” عمرها القانوني عامين، وعمرها الفعلي عام وبضعة أشهر، ويعتبر كتاب “في تشريح الهزيمة” هو أكثر كتب الدار نجاحا وتفاعلا مع الجمهور حتى الآن، فقد نفدت طبعته الأولى وصدرت منه طبعة ثانية.

[us_separator type=”invisible”]

حجب الأرشيف الرسمي المصري عن “هزيمة يونيو” عقبة واجهت الكتاب

حرر “في تشريح الهزيمة”، وشارك في الكتابة بورقة حملت عنوان “الهزيمة المحتومة: سياق ووقائع حرب الأيام الستة”، خالد منصور، الكاتب والخبير في شؤون المساعدات الإنسانية والمجتمع المدني، والذي عمل لسنوات في الأمم المتحدة، وصدر له من قبل كتاب “خلف الستار: الوجه الآخر لأفغانستان”.

يقول منصور في المقدمة بان هذا الكتاب ينطلق من “فرضية أساسية” هي أن “هزيمة 67 ليست فقط ماضيا نتعلم دروسه، ولكنها حاضر حي بمعنى انها حدث تأسيسي لحقبة مازلنا نعيشها حتى اليوم. ومن ثم فإن تقييمنا للهزيمة وأسبابها وسياقها هو بحث في جذور حاضرنا ومعانيه الكبرى”، وبمعنى آخر فإن قيمة هذا الكتاب النقدي لا تأتي من سرده لوقائع تاريخية انتهى تأثيرها، بل تمتد لتشمل إلقاء ضوء على ما يحدث في الواقع الآن، من خلال تفنيد أسباب الهزيمة بمعزل عن “الروايات والأساطير” التي أرتبطت بهذا الحدث على مدار خمسين عاما.

يلفت منصور الانتباه إلى أن هذا الكتاب يأتي في ظل “اختفاء المصادر الأولية وحجب الأرشيف الرسمي للدولة عن الباحثين واعتبار بعض الأمور مسلمات لا يجوز نقدها أو محاولة تفكيكها”، وفي الندوة التي أُقيمت لمناقشة الكتاب، قال منصور إن هناك آلاف الكتب التي صدرت عن حرب يونيو بلغات عديدة، مع ملاحظة أن “الأرشيف الإسرائيلي مفتوح للباحثين خاصة الروايات الرسمية، لكن الأرشيف الرسمي المصري غير متاح، وربما غير موجود، فاعتمدنا على مصادر مثل كتاب الانفجار لمحمد حسنين هيكل”.

الفصل الأول الذي كتبه خالد منصور-وهو أطول فصول الكتاب- يتقاطع مع الفصل الأخير الذي كتبه خالد فهمي، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة هارفارد والجامعة الأمريكية بالقاهرة، وحمل عنوان “هزيمة 67 الهيكلية والمستمرة”، في تناولهما للوقائع التاريخية بداية من مايو وحتى ما بعد هزيمة يونيو 67، مع التركيز على ما حدث في الأيام الست للحرب.

[us_separator type=”invisible”]
خالد منصور في ندوة مناقشة كتاب “في تشريح الهزيمة” بمكتبة القاهرة الكبرى مصدر الصورة: دار المرايا للإنتاج الثقافي
[us_separator type=”invisible”]

آثار إيجابية للهزيمة

تناول محمد العجاتي، المدير التنفيذي لمنتدى البدائل العربي، في الفصل الثاني الذي حمل عنوان “الناصرية والهزيمة: انتكاسة أم انهيار للمشروع العربي؟”، تأثير هزيمة يونيو على مشروع “القومية العربية”، الذي كان بارزا في الخطاب الرسمي للدولة الناصرية، مع التركيز على تأثير الهزيمة على “القضية الفلسطينية” بشكل خاص، استعاد العجاتي في ورقته توصيف المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد لهزيمة يونيو بانها “الخسارة التي يمكنها أن تختزل كل الخسائر الأخرى”، وقال إن بعد هزيمة يونيو “لم تعد القضية الفلسطينية هي القضية الأولى للعرب، وأصبح هدف تحرير الأراضي العربية المحتلة اسبق في الأهمية والأولوية على تحرير فلسطين”، كما إن الحركة القومية العربية تعرضت لنكسات عدة، تمثلت في الصراعات الداخلية “كأحداث الأردن 1970، والحرب الأهلية اللبنانية، التي أمتدت إلى حين غزو إسرائيل للبنان 1982 وإخراج قوات منظمة التحرير من بيروت”.

في الوقت نفسه أشار العجاتي، إلى ان الهزيمة كانت لها “آثارا إيجابية”، ظهرت في الخطوات التي اُتخذت للحد من تغول الأجهزة الأمنية، ومحاكمة قيادات هذه الأجهزة، بالإضافة إلى “التغيرات الجذرية في شكل وطبيعة المؤسسة العسكرية بهدف تطوير مهنيتها، وهو ما ظهرت نتيجته في حرب الاستنزاف، وخرج مفهوم القومية من الشخصنة ليصبح تضامنا شعبيا واسعا كان قد اختفى من عام 1958 ثم عاد بقوة مصحوبا بنقد لشخص عبد الناصر ذاته”.

طرح العجاتي سؤالا في الندوة: هل المشروع العربي انتهى؟ وأجاب بأنه يرى: المشروع العربي تحول إلى مشروع احتجاجي يظهر عندما تكون هناك أزمات تواجه هذه المنطقة، لكنه وضع شروطا أمام إمكانية ان تصبح “القومية العربية” مشروع المستقبل، بداية من تجنب العيوب السابقة في الدولة الناصرية على مستوى بنية المشروع أو سياساته، أو استخدامه كمصدر للشرعية بديلا عن الإنجاز الفعلي “وهذا لن يحدث دون معالجة القضايا المطروحة بعد الربيع العربي، مثل ملف الاقليات وانفصاله عن الديمقراطية، أما إذا فشل المشروع العربي في تعديل نفسه وتغيير منطقه بحيث يكون حراكه من أسفل إلى أعلى بحيث يتفاعل بشكل إيجابي مع قضايا العصر، فإنه لن يتجاوز كونه مرجعية لرد فعل احتجاجي ليس أكثر..”.

أما الفصل الثالث، الذي كتبه الباحث والمحاضر في الجامعة الأمريكية بالقاهرة سامح نجيب، بعنوان “هزيمة 1967 وفشل الدولة التنموية الناصرية”، حاول أن يقدم أدلة حول “أسطورة” تقول إنه كان هناك مشروعا تنمويا ناصريا ناجحا، وتم ضربه بمؤامرة خارجية، فنجيب يرى من البداية إنها قراءة خاطئة لهزيمة يونيو 67، مع الإشارة إلى أن التحليل الذي يقدمه من خلال الفصل لا يتناقض مع التحليلات التي “تُرجع الهزيمة إلى استبداد النظام الناصري والغياب التام للديمقراطية والمحاسبة والشفافية والإدارة الكارثية للحرب، وخصوصا دور الصراعات في قمة النظام بين الاجهزة الأمنية المختلفة وبين رئاسة الدولة وقيادة الجيش، بل وحتى الصراع الشخصي على السلطة بين جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر..”، بل يعتبر مكملا لها من خلال محاولة فهم السياق الاقتصادي الذي حدثت فيه الحرب والهزيمة.

أشار نجيب أن من ضمن الأسباب الاقتصادية التي قادت مصر للهزيمة، هي “الحرب الطويلة الفاشلة في اليمن”، وفشل الخطة الخمسية الأولى التي انتهت عام 1965 وجعلت الدولة الناصرية “مفلسة تماما”، لذلك لم يكن من المستغرب أن تقع هزيمة يونيو، فمصر لم تكن مستعدة اقتصاديا لتكلفة الحرب، بالإضافة إلى أن “التفكك في قيادة الجيش وإدارة الحرب نفسها”، كان-أي التفكك- موجود في إدارة عملية التصنيع وإدارة التنمية “فالهزيمة في الحرب ليست سلسلة من الصدف بل نتاج فشل في إدارة الاقتصاد بشكل عام”. تمنى نجيب لو أنه أطلع على وثيقة رسمية توضح تكلفة حرب اليمن “محدش عارف بالظبط تكلفة الحرب دي، التقديرات ما بين مئات الملايين في الشهر لعدة مليارات بالدولار، محدش عارف لغاية دلوقتي ايه اللي اتصرف في حرب زي دي اللي هي طبعا آثرت بشكل مباشر في حالة الاقتصاد بشكل عام وهي داخلة على حرب يونيو”.

محمد العجاتي متحدثا عن ورقته البحثية في الندوة مصدر الصورة: دار المرايا للإنتاج الثقافي
[us_separator type=”invisible”]

حقيقة صعود “التيار الصوفي” كرد فعل على الهزيمة

شكك مصطفى عبد الظاهر، الباحث في العلوم الاجتماعية، والذي شارك في الكتاب بورقة عن “الحركات الإسلامية في زمن الهزيمة”، في الفكرة التي طرحها محمد العجاتي عن صعود التيار الصوفي بعد حرب يونيو كرد فعل على الهزيمة، قائلا: “أنا لا اعتقد أن التصوف ضمن المشروع الإسلامي لانه معندوش رؤية سياسية، وإنه حالة لتحويل المشاكل الحياتية إلى مشاكل لاهوتية، بتحويل الإنسان مشكلته مع البني آدمين إلى مشكلة مع الله، أو يعتقد ان الحل في العلاقة مع الله . وارد جدا يكون فيه تأثير للنكسة على صعود التصوف وحالة اليأس عند الناس، لكن لا اعتقد بوجود التصوف داخل الحركات الإسلامية”.

تناول عبد الظاهر في ورقته، الظروف التي أحاطت بحركات الإسلام السياسي في مصر، مع التركيز على تحليل ردة فعل الإسلاميين على هزيمة يونيو، والتي أنقسمت إلى محورين مختلفين: العنف الذي تبناه سيد قطب، والإصلاح الذي تبناه حسن الهضيبي المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين.

الباحث مصطفى عبد الظاهر مصدر الصورة: دار المرايا للإنتاج الثقافي
[us_separator type=”invisible”]

أسطورة تأييد الشعب المصري “كله” لعبد الناصر

“ما أشبه شعبنا الآن بقافلة كان يجب أن تلزم طريقا معينا، وطال عليها الطريق، وقابلتها مصاعب، وأنبرى لها اللصوص وقطاع الطرق، وضللها السراب، فتبعثرت القافلة. كل جماعة منها شردت في ناحية، وكل فرد مضى في اتجاه”، بدأ بلال علاء الفصل الخامس “تيه القافلة” بهذا المقطع من كتاب “فلسفة الثورة” لجمال عبد الناصر، ليكون مدخلا لما يرغب في إعادة قراءته عن هوية الشعب المصري، من وجهة نظر عبد الناصر نفسه، وأيضا الإسلام السياسي، الذي اعتبرهما علاء متشابهين في فصل كلا منهما نفسه عن الشعب “الذي من المفترض أنه مستودع الهوية”.

يرى علاء أن الشعب “يظل متغيرا ومتنوعا وعصيا على المحاصرة في قالب”، حتى مع إدعاء مجموعات من المثقفين أو العسكر أن “الهوية قد حلت فيها، سواء باختيار التاريخ الذي يبحث عن بطل لكي يقوم بالمهمة، أو باختيار الهي يصطفي جماعات لتمثل هي وحدها الإسلام وكل من خارجها خارجه”.

اللافت في الورقة البحثية التي قدمها علاء، هي النتيجة التي خلص إليها، والتي رفضت “روايات السلطة وقت عبد الناصر”، أن الشعب المصري بمجمله كان مؤيدا لعبد الناصر أو أن سلطته نجحت في “إماتة الشعب”، بل الأقرب للتصديق أن سلطة عبد الناصر نجحت في “محو آثار حركة الناس بشكل دؤوب فصار التعرف عليها صعبا”.

كان عبد الناصر في كتابه “فلسفة الثورة” وفق المقطع الذي اقتبسه علاء، يرى أن “الشعب هو قافلة تائهة يجب عليه هو وضباطه، أن يسوقوها إلى الهدف المنشود”، وبما ان الهزيمة قد فرقت الجماهير من وجهة نظر عبد الناصر والناصريين من بعده، فإن البكاء-وفقا لعلاء- بعد رحيل عبد الناصر ليس حزنا على اشتراكية الدولة بقدر ما هو “نواح على تيه القافلة، والحنين إلى السير على الخطوط المرسومة والقوة التي تقوم برص الصفوف وإعادة من يبتعد عن الخط المرسوم”.

الباحث بلال علاء مصدر الصورة: دار المرايا للإنتاج الثقافي
[us_separator type=”invisible”]

اعتبر خالد منصور- محرر الكتاب- أن “في تشريح الهزيمة”، أول كتاب نقدي باللغة العربية عن هزيمة يونيو، يتناولها بعيدا عن الروايات الرسمية والأساطير، التي أحاطت بها عبر خمسين عاما، لكن في الوقت نفسه، أشار إلى أنه كان يتمنى أن هذا الكتاب يتضمن “أصوات نسائية” أو نسوية، تتحدث عن هزيمة يونيو، لكنه لم ينجح في ذلك رغم محاولاته المتعددة.

لم ينجح الكتاب أيضا، في تضمين آراء تعبر عن تأثير الهزيمة على الطوائف الدينية الأخرى كالأقباط، والذين تبقوا من اليهود في مصر، في رأي منصور أن هزيمة يونيو مشروع يحتاج لأكثر من كتاب، ومع الأخذ في الاعتبار إنه ليس لدي دار “المرايا” النية حاليا لإصدار أجزاء آخرى من “في تشريح الهزيمة”-كما قال الناشر- إذن ربما يظل المشروع مفتوحا لكي يبدأ آخرين في إصدار المزيد من الكتب ضمن الخط نفسه الذي بدأه كتاب “في تشريح الهزيمة”.

الوسوم

‫2 تعليقات

  1. تنبيه: Google
  2. تنبيه: Google
إغلاق
إغلاق