
الحافلة المكتظة التي عبرت الطريق، اضطرت لأن تسلك طريقا مغايرا لأن تظاهرات المواطنين الأفرو أمريكيين قطعت الطريق. المسعف الشاب الذي يقلّ أصحاب الهمم والعجائز يحاول الصمود إزاء المفاجآت المتتالية التي يتعرض لها في الطريق. كان بمقدوره أن يتجنب كارثية اليوم لو أنه لم يرضخ لإلحاح أصدقاء جده، ليقلهم لجنازة صديقتهم. بالرغم من وجود ثلاثة زبائن عليه توصيلهم لوجهتهم. مسنٌ كبير يعاني السمنة المفرطة ولا يستطيع الحركة، وفتاة شابة تعاني تأخرا عقليا تريد الذهاب لاحتفال المواهب لتغني، و”تريسي” الفتاة التي تعاني من صعوبة المشي وتهوى جمع الأسطوانات الموسيقية. هذا الاحتشاد الصارخ، هو ما يميز الفيلم الأمريكي “اعطني الحرية” للمخرج كيريل ميكانوفسكي، والمعروض ضمن مهرجان بانوراما الفيلم الأوروبي 2019
بين التزامه بمهنته وإنسانيته يقف “فيك” محاصرا. بينما يلاحقه رئيسه بجهاز اللاسلكي الذي يتابع سير الرحلة، ويرد “فيك” بصبر وإصرار بمقولته الدائمة: “أنا في طريقي.. أمامي عشرة دقائق فقط”. رغم تأخره الفعلي، ورغم محاولاته المستميتة لإرضاء زبائنه وأهله في نفس الوقت عبر شحنهم في ذات الحافلة ذات الصرير المزعج على الطرقات. يقوم “فيك” بهذه المهام -على صعوبتها- بشكل روتيني. دون تأفُف أو تباطؤ.
الوقت هو العدو الحقيقي للإنسان، ولـ”فيك” حيث عليه الإسراع لتوصيل زبائنه ممن يعانون جسديا والواقعين تحت أَسـر القدرة المحدودة. هو أيضا لديه أسواره الخاصة التي يحاول اجتيازها، لكنها محكمة كإحكام السلك الشائك المحيط بأبواب سيارة النقل المخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة والتي يعمل عليها.
لا نرى “فيك” بوضوح في بداية الفيلم، بل أنك تخاله إحدى الشخصيات الثانوية، وشيئا فشيء يبدأ تواجده ورؤيته في الاتضاح حيث كانت الأولوية في العرض لركاب الحافلة، في مشاهد السيارة يخلق المخرج كيريل ميكانوفسكي براحا، ليس باستخدام العدسات قدر هذا الزخم والتكدس من المسنين على اختلاف هيئاتهم. هذا التراكب الصوتي الذي يزخر به شريط الصوت وعفوية الأداء من ممثليه يولِّـدان هذا الشعور بالاتساع رغم محدودية المكان. وفي مدى زمني لا يتجاوز اليوم الواحد ينجح الفيلم في طرح قضايا كبرى وإلقاء الضوء على مجموعات عدة ومن أصول مختلفة في المجتمع الأمريكي الذي من المفترض أنه يقوم على التنوع العرقي والتعدد الثقافي، حيث تمارس كل مجموعة عاداتها وتقاليدها وتعيد إحياء ثقافتها إما بإقامة حفلات موسيقية منزلية روسية الطابع، أو بتشجيع أغاني الراب التي يصدح بها الشباب الأفروأمريكي.
لكن المُشاهد يتلمَّـس حِـسا تسجيليا يتسلل للعديد من المشاهد خاصة في احتفال متحدي الإعاقة الذي يقوم “فيك” بتوصيل إحدى الراكبات إليه، حيث الكاميرا متلصصة تقتنص أنشطتهم، وما يبدو أنه بسيط وتلقائي بالنسبة لك قد يكون تحديا كبيرا بالنسبة لقدراتهم، كربط مجموعة خيوط، أو غناء أغنية بسيطة، أو رسم شجرة كبيرة الجذع وافرة الأغصان وبالغة التجريد سيقوم المخرج كيريل ميكانوفسكي بإستثمارها في نهاية الفيلم.

عالم يميل للتنميط ولتسكين أفراده في قوالب هذا ما يواجه كل أبطال العمل متناسيين المشترك بينهم والذي يبدو في الفيلم أنه أكبر بكثير من الاختلافات الظاهرة عليهم. بين مجتمع الأمريكيين من أصول إفريقية وآخرين من أصول روسية ثمة قواسم مشتركة، لا تبدأ بحسهم الساخر الفطري ولا تنتهي بالإحتفاء بالطعام وما يتولد حول مائدة الطعام من أحاديث وقصص وذكريات مُستعادة. المائدتين اللتيين تحلَّـقا حولهما دائما ما كانتا تسِعُان غريبا قد يرونه للمرة الأولى. كحارسة العقار السمراء التي يستضيفها المسنون الروس في حفل تأبين صديقتهم، في مقابل أسرة تريسي راكبة الحافلة المحبة للموسيقى ذات الأصول الإفريقية التي تستقبل -فجأة وبلا موعد- المُـسعِـف وجدِّه (من أصول روسية) على العشاء. ربما أراد المخرج أن يخبرنا أن عالمنا بالاتساع الكافي للجميع. ففي حين قد يختلف الناس في التوجهات السياسية واللون والعِـرق والدين؛ إلا أن الطعام والحب هو ما قد يجمعهم.
من هنا يلقي ميكانوفسكي أسئلته المستفزة: هل يشكل التحيُّـز للعِـرق إعاقة؟ وهل تُعتبر الإعاقة نوعا من التميّـز؟ ولمَ لا يتحمل العالم في أحيان كثيرة كل هذا التنوع والاختلاف؟
من خلال الفيلم نرى الهويات المركبّـة كـسِـمة بارزة في رسم شخصيات العمل، كأن تكون أمريكيا من أصول روسية ويهودي العقيدة، أو أن تكون امرأة أمريكية من أصول إفريقية وفي ذات الوقت من متحديات الإعاقة. وعبر المواقف الكوميدية والحوار الساخر بينهم تتراجع الهويات المتطاحنة ليبقى الإنساني والفطري هو ما يجمع بين هذه الإثنيات والعرقيات المختلفة.
الشجرة كبيرة الجزع وافرة الأغصان التي رسمها الموهوب المصاب بمتلازمة داون والتي رأيناها في بداية الفيلم يستغلها ميكانوفسكي بنهاية الفيلم عبر ترديدها كموتيفة بصرية تلاحق (فيك) ويرتمي فيها وفي نسخها العديدة والملونة حينما يخترق مظاهرات الأمريكين ذوي الأصول الإفريقية. مذكِّـرة إيانا بوحدة الأصل وتعدد المظهر، تنويعات لنفس اللحن وتجليات لوحدة الجوهر. قد يبدو الأمر مستبعدا ومستحيلا، لكن المستحيل أو غير الممكن يجد “فيك” له سبيلا، تماما حين يجعل أسطوانات الأغاني تصدح دون وجود جهاز الجرامافون.. فيصنع بديلا قد لا يُـقـدِّم نقاءا صوتيا بالغا، ولكنه يتيح لتريسي أن تستمع لأسطواناتها عبر قُـمع ورقي وقلم رصاص. محاولات للتوافق أو للإحتيال على النُـدرة أو العدم. تتيح لهما الاقتراب الشديد عند سماع الموسيقى من الأسطوانة أو حين يواجهان معا الضرب في التظاهرات الإحتجاجية فيحتمي كل منهما بالآخـر. جسدا بجسد ورأسا برأس.
* يعاد عرض الفيلم بسينما الزمالك.. 12 نوفمبر حفلة الساعة السابعة مساء.