ثقافة
فيلم “البؤساء” الفرنسي.. مشاع الفقد

ضمن بانوراما الفيلم الأوربي في دورتها الثانية عشر عُـرض فيلم “البؤساء” ضمن فاعلية مخرجون صاعدون.. الفيلم الحاصل على جائزة لجنة التحكيم بمهرجان كان 2019 والمعروض في المسابقة الرسمية لمهرجان تورنتو في العام نفسه يستعير اسم الرواية الشهيرة لفيكتور هوجو، وتدور أحداثه في حي (مونفيرماي) وهو نفس الحي الذي دارت فيه أحداث الرواية الشهيرة.

ببداية الفيلم وفي نبذة مختصرة نتعرف على الأوضاع الأمنية في الحي والقوى الفاعلة فيه من خلال محادثة بين فريق رجال الشرطة حين يستقبلون زميل وافد جديد لدائرتهم.. هناك الجماعات الجهادية التي تستقطب شباب الحي ممن يشكلون الجيل الثاني للجاليات المهاجرة إلى فرنسا، وهناك عصابات تعمل في كل ما هو خارج عن القانون، وهناك عمدة الحي الذي يحاول فرض سيطرته على سوق البضائع المسروقة ويتجادل مع البائعين على إتاوته. وشبح أحداث العنف التي تفجرت في فرنسا عام 2005 في أحيائها المهمّشة يخيم على الأجواء ولا يريد الجميع تكراره.
يشكل المعمار مفتاحا لفهم أزمة هذا الحي وغيره من أحياء المهمّشين. بيوت بالغة الضيق لا تسمح بأي كرامة إنسانية، أفراد عدة مكدسون في مجمِّـع سكني يضم مهاجرين ومقيمين غير شرعيين. وعنف تلقائي يتولّـد جراء هذه الظروف ولا تستطيع الشرطة مواجهته أو احتوائه. وعبر كاميرا طائرة يلهو بها صبي في الحي تستعرض الكاميرا مقاطع أفقية من الحي وشوارعه ومنشآته وأسواقه.. بانوراما علوية لهذا الحي لا تعكس سوى البؤس والقبح العمراني الذي يحيط بأفراده.

يتم استدعاء الشرطة لبلاغ سرقة يكاد يُشعل الحي بين فرقة السيرك المتنقلة وأبناء الحي، وتتعهد الشرطة لصاحب السيرك بإرجاع ما فقده لنكتشف أنه شِبل صغير سرقه صبي من السيرك قبل أن يتباهى بسرقته وتصويره على مواقع التواصل الإجتماعي فتبدأ الشرطة في ملاحقة الصبي وترصده في مباراة لكرة السلة وتقبض عليه ويقاومهم أصدقاؤه لتتصاعد الأحداث ولتخرج بطريق الخطأ طلقة من مسدس صوت فتصيب الفتى. وتسجل الكاميرا الطائرة بالمصادفة مواجهة رجال الشرطة مع صبية الحي وإصابة الفتى بمسدس شرطي.
وفي محاولة الشرطة لتتبع هذه الكاميرا الطائرة واستعادة كارت الذاكرة يتم تقديم تشريح للمجتمع الفرنسي المعاصر في هذا الحي.. كيف يتشكل العنف من رحم العشوائية والفقر، وكيف ينضج السخط على مهل في نفوس المهمشين، وكيف تستأسد السلطة على الضعاف مخافة انفجارات محتملة.
ثمة إنفجار وشيك في الحي بين فرقة السيرك الغجرية من جهة وبين أبناء الحي بعُـمدتهم من جهة أخرى وتحت أعين وشهادة العصابات في الحي وجماعاته الإرهابية.. والشرطة تحاول نزع هذا الفتيل.. والوصول في نفس الوقت إلى كارت الذاكرة بالكاميرا الطائرة بعد أن سعى كل فريق للحصول على الكارت لابتزاز الشرطة. كل هذا وثمة فتى مصاب في وجهه محتجز لدى إحدى عصابات الحي بعلم الشرطة.
عادة ما يقوم فريق الشرطة بتقسيم الأدوار فيما بينهم عند استجوابهم لأحد المتهمين وينحصر أدائهم بين الشرطي السيء والشرطي الطيب؛ لكن الشرطي الوافد يتسم فعلا بعاطفة تفـهُّـم لهؤلاء الخارجين عن القانون اللذين يطاردهم، وهو أقل من يستخدم أي من العنف اللفظي أو البدني بين باقي فريقه في ملاحقتهم للمشتبهين، ويحاول اسعاف الفتى المصاب رغما عن إرادة باقي فريقه الذين يفضلون استعادة الكارت على إنقاذ ضحيتهم.
يتم تدارك الأمر بالعثور على الشِـبل الصغير في متنزه عام وتسليمه لفرقة السيرك واجبار الصبي على الاعتذار لصاحب الفرقة الغجري الذي يدخله فقص السيرك مع أسد ضخم ليهدده بعدم تكراره لفعلته تلك، ليتولّد الرُعب الفجائي والتهديد المتبادل بين أفراد الشرطة وأعضاء السيرك لإخراج الصبي من قفص الأسد. وحتى بعد خروجه يهدده قائد الشرطة ألا يخبر أحدا أن إصابته إثر مسدس شرطي بل أنه وقع على وجهه.
الكل ضد الكل. ولكلٍ أسبابه.. حفاظ العصابات على النفوذ، استعادة الشرطة لهيبتها. وسعي المواطنين لانتزاع معاملة آدمية أمام السلطات. تقاطعات من المصالح والرغبات لكل فئة في حي (مونفيرماي) العتيق. ولا يبدو أن أي منها قد تحصّلت على مبتغاها رغم إعلانها الصاخب عن نفسها.
بنهاية الأحداث يجبر الشرطي الطيب زميلاه على الاعتذار للصبي لإصابته وسوء معاملته ويذهبون للحي ليتم حصارهم في بناية تشهد أحداث العنف الانتقامية ضد الشرطة ،ولا تجدي أية وساطات حتى عمدة الحي الذي يُسحل ويُضرب هو الآخر. ليتصدر الفتى المصاب المشهد بزجاجة مولتوف مشتعلة ويواجه الشرطي الذي أسعفه من قبل ويتركنا الفيلم لنتوقع أي خطوة سيتخذها الصبي اليافع الساعي للانتقام.
ربما كانت قضية العدالة الإجتماعية هي شغل فيكتور هوجو الشاغل في روايته، ولكنك تبحث عنها بعد سنوات في نفس الحي الذي دارت فيه الرواية فلا تجدها، رغم مظاهر الوحدة التي التي يبدأ بها الفيلم حين يتتبع صبية يافعيين في طريقهم لتشجيع فريق كرة القدم الفرنسي الذي يضم لاعبين من أصول إفريقية وجنسيات مختلفة. عدالة غائبة وأسد صغير تائه في الحي ووحش طليق سيلتهم المدينة.
* يعاد عرض الفيلم بسينما الزمالك.. الخميس 14 نوفمبر حفلة الساعة السابعة مساء.
تعليق واحد