ثقافة

فيلم “فيتالينا فاريلا” .. الإنارة بالإعتام

في أول أيام مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الواحدة والأربعين عُرض في المسرح الصغير بدار الأوبرا الفيلم البرتغالي “فيتالينا فاريلا”.

بحسٍ تشكيلي عالٍ وبإيقاع متباطئ يرسم المخرج بيدور كوستا وقائع عودة أرملة من أصول إفريقية لتدفن زوجها في لشبونة بعد غيابه عنها لمدة خمسة وعشرين عاما.
تيه بعد تيه.. وهجرة إثر هجرة نتعرف من خلالهما على حياة عُمّال البناء من المهاجرين ذوي الأصول الإفريقية في مدينة لشبونة بالبرتغال.

المقدمة التي استمرت لربع الساعة تقريبا قبل ظهور عنوان الفيلم ورؤية بطلته بشكلٍ واضح شكّلت تواطؤا فنيا بين المخرج ومُشاهِده لما سيكون عليه هذا الفيلم والذي يتطلّب متلقيا صبورا.
الفيلم القاتم بصريا، والمنولوجات الطويلة لأبطاله، فضلا عن مسرحة المشهد السينمائي من حيث ميزانسين حركة أو سكون الممثلين، بالإضافة إلى الحوار الشاعري الأقرب لقصائد الهايكو في تكثيفها ورمزيتها؛ كل ذلك مجتمعا شكّل تغريبا ما لسرد قضية شديدة الأهمية والمعاصرة ولكن دون الخوض في إكليشيهية الطرح التي قد يقع فيها من يتصدى لقضايا العِمالة في الأحياء الفقيرة ومدن الصفيح. والذي كان من الممكن أن يتخذ توجها واقعيا لولا أن مخرج الفيلم يُعدُّ أحد أساتذة السينما الشعرية المعاصرين.

يختار المخرج أن يعتمد الكادرات الثابتة للشوارع الفقيرة في العاصمة البرتغالية والتي يتيه فيها رجل دين مهيب الهيئة، لكنه ينشُد السلام النفسي عبر أشعاره الأقرب للعديد والتي يستمر في إنشادها ويديه تتلمس أعمدة الإنارة الخشبية أو حين يُمرّغ جسده ووجهه في الأرض وكأنه يبحث عن قطعة من روحه اهتبرها أحدهم.
الشوارع الليلية على خوائها إلا من هذا العابر تبدو فيها بقايا النهار وحركته من خلال شريط الصوت الذي ينقل ونس البيوت عبر أصوات تلفاز أو مشاجرة زوجية تتهادى لمسامعنا من أحد النوافذ. ثمة حياة لكننا لا نراها. فقط نستدل عليها بشكل ضمني. أمل خجول يمرره كوستا إلينا فلا يصرّح به جهرا بل يوحي به من بعيد.

الإرجاء والوعد بالغد الأفضل هو ما أدمنه زوج “فيتالينا” على مدى ربع القرن عاملا في البناء والكهرباء في مدينة بعيدة عن زوجته وابنته أملا في بناء بيت يليق بهما. تماما كما أخبرها أصدقاؤه في مراسم العزاء: “كان يحبك ويقول أنك حب حياته”، لكن الأرملة التي أُبعِدت عن زوجها تتشكك فيما قالوه حتى أنها تلومه في مناجاتها لروحه فهو لم يستطع العيش معها ودُفن قبل أن تصل لشبونة وكأنه يهرب منها حيا وميتا. وحين تعود فإنها تقيم مذبحا صغيرا بشموع وزهور وصورة لزوجها شابا.

أرواح هائمة
ليس لكِ مكانا هنا.. ارجعي من حيث أتيتِ” عبارة تسمعها الأرملة منذ وصولها لحضور مراسم الدفن التي تفوتها لوصولها متأخرة ثلاثة أيام فتقيم العزاء في بيت زوجها المتهالك والذي لم تطئه منذ سنوات عديدة. وحين تذهب للكنيسة تجدها مهجورة من المصلين ويخبرها الكاهن أنه لا قدّاس اليوم ولا أي يوم فقد نسي الناس الله، لكنها تتعرف عليه وتتذكر أن هذا الكاهن لم يستطع الصلاة على ضحايا حادث الحافلة التي كانت تقصد كنيسته في شبابه وساعدته “فيتالينا” حين كانت صبية.. ويخبرها أن أرواحهم تطارده وتظل معه في وحدته. كنيسة هجرها المصلون وأرملة هجرها زوجها يُعزيان كل منهما الآخر.

منذ الوهلة يؤسس كوستا للشبونة كمدينة على قتامتها تملك روح مقاومة تكفل لها الصمود. تماما كجهاد العمّال في طلب العيش وأملهم اليومي (حتى لو كان كاذبا) في تحسُّن أحوالهم المعيشة. وعلى المستوى البصري فإن عيون الأبطال دائما ما تلتمع حتى في المشاهد المعتمة التي شكّلت جسد الفيلم. ثمة روح يقظة تحاول النهوض. وبإستلهامٍ تشكيلي من لوحات “رامبرانت” ينقل لنا مدير الإضاءة والتصوير روح النور الذي يجاهد العتمة.

فيلم أغلب مشاهده ليل داخلي في بيوت مُقفِرة تتهالك أسقفها على رؤوس قاطنيها وشوارع كابية كئيبة خلت من المارة ولا يؤنسها إلا أعمدة الإنارة أو مصابيح البيوت. الإعتام المتعمّد خرقته حوالي سبعة مشاهد كانت الإنارة فيها بالفيلم تكفل رؤية مفردات المشهد، وجاءت بنهاية الفيلم، وتراوحت بين نور الفجر بضبابيته، وأشعة العصر حيث الظلال الطويلة. فلا إنارة صريحة بمشاهد الفيلم ووحدها العتمة تلقي بظلالها عليه.
يقول راعي الكنيسة لفيتالينا: “نحن أبناء الظلال” ربما لهذا اختار كوستا نفي الضوء في شريط فيلمه واللعب بالظلال. فيقدم لنا ظلال امرأة كانت جميلة في شبابها شاخت بفعل الهجران، وظلال رجل دين يحتاج لعودة إيمانه.

لماذا لم يعود زوجها ولماذا لم يستطع توفير المال لبناء بيت جديد؟ يخبرها صديقه بمحدودية الرزق الذي كان بالكاد يكفي الطعام والمخدرات التي تنسيهم بؤس حياتهم. مسلك سيزيفي للعود على البدء. لكنها لا تستسلم وتقرر إصلاح سقف بيتها المتهالك، بل وينتهي الفيلم بإعادة بناء البيت بيدها هي وابنتها.

الفيلم يُوجّه تحية للنساء وكفاحهن في مهرجان وقّع في دورته الحالية على اتفاقية 2020\ 5050 والتي تضمن التمثيل الجندري الذي يراعي مشاركة نسبة عادلة من أفلام المرأة في دوراته القادمة.

*حصل الفيلم على جائزة الفهد الذهبي في مهرجان لوكارنو 2019.

الوسوم

تعليق واحد

  1. تنبيه: Google
إغلاق
إغلاق