
كحال البشر وأطوارهم تزدهر الكيانات. تلمع وتخفت أضواؤها، تنشط وتخبو ولا يسع الراصد إلا تأملها. في فيلمها “في أستوديو مصر” ترصد “منى أسعد” كيف نشأ هذا الأستوديو عملاقا وكيف تطور وكيف ذبل وكيف أُعيد إحياؤه، وكيف قاوم وكيف أفـل. لنرى مصير الصناعات الوطنية ولنرقب أحلام مجموعة من السينمائيين في استعادة مجد السينما المصرية تذهب أدراج الرياح. الفيلم يثير شجون السينمائيين حين يستدعي أسئلة تتعلق بصناعة السينما ومستقبلها من قبيل: هل ينتهي استخدام الشريط السينمائي؟ وهل تلتهم التقنية الحديثة والرقمنة شريط السيلولويد فلا يعد له مكانا ويصبح تاريخا؟ هل يختفي هذا الوسيط الفني ويُفسِـح مكانا لتقنيات الديجتال أو ربما تنتزع هي مكانته؟
تبدأ “منى أسعد” فيلمها بإلتقاط السينما كمتعة خالصة حيث تقدم لنا أطفالا صغارا يلعبون وهم ينشدون أغنية:”يا بنات إسكندرية.. تماثيل استوديو مصر.. صورة ولا أصل؟!”
تلتقط “أسعد” الحلم في تلك الأنشودة التي تنتمي لفلكلور الطفل، تشير إلى الصورة والأصل، إلى المراوحة بين الحقيقة وانعكاسها، وبين الواقع والخيال.. أليست السينما كذلك؟
ترصد في فيلمها تجربة المخرج والمنتج “كريم جمال الدين“لشراء استوديو مصر بعد عرضه للبيع ضمن الشركات التي تعرضت للخصخصة، وتتتبع بالكاميرا محاضر لجنة التسليم من طرف الشركة القابضة، ومحاولات أحد عشر من أصدقائه لإثنائه عن شراء هذا الكيان الذي تهالكت معامله وخُرِّبت أستوديوهاته ولم يتبق منه إلا مجد تتردد أصداؤه من بعيد.
تقوم “منى أسعد” بإجراء مقابلات مع العاملين بفريقشركة “الإكسير” أثناء انتقالهم لأستوديو مصر وترصد كيفية استقبالهم للمكان الجديد. كيف تجاوزت المونتيرات الصعوبات التقنية للتحول للاستخدام الرقمي للمعدات، في حين أن منهم من كانت تعتبره “أتاري”.
يمتلئ الفيلم بالمقاطع السمعية والموسيقى التصويرية الخاصة بالتراث السينمائي للأفلام المصرية بخلاف مشاهد سينمائية من أشهر الأفلام. استثمرتها “أسعد” جيدا وبشكلٍ فعَّـال في سردها التسجيلي.
التحولات:
في إحدى مقابلات الفيلم يلخص الناقد الراحل سمير فريدالأمر حين يقول: “الذي جرى لأستوديو مصر هو الذي جرى لمصر.. إللي حصل لمصر 1952” يلقي الضوء على عملية التأميم التي خضع لها الأستوديو واستحواذ الدولة عليه هو واستوديو محمد فوزي أيضا. وتلفت “أسعد” الانتباه إلى أن أستوديو مصر بلغت مساحته 17 فدان عام 1935 وكانت المباني تشغل 8 فدانين فقط استلمتها شركة “الإكسير”، في حين خُصصت المساحة المتبقية لزراعة الخيار والطماطم.
تتبع “منى أسعد” كيف كانت البدايات واعدة وكيف تصدَّى الأستوديو بإدارته الجديدة لإنتاج أفلاما تسجيلية لتهاتي راشد وليكون فيلم “البنات دول” هو أول فيلم تسجيلي ينتجه الأستوديو ويذهب لمهرجان كان. ويتزامن مع توجَّه الأستوديو للإنتاج الروائي ليخرج للنور فيلم “احنا اتقابلنا قبل كده” من إخراج هشام الشافعي وسيناريو نادين شمس، وبطولة آسر ياسين.
وفي حين بدت المعطيات وقتها مشجِّـعة للغاية كان استحضار فيلم “غرام في الكرنك” تماشيا مع التوثيق لإنشاء أستوديو مصر في حُلته الجديدة. ترتحل “أسعد” ما بين مشاهد إقامة المسرح الذي سترقص عليه فرقة رضا في الأقصر وبين الحركة الدءوبة التي يشهدها أستوديو مصر، وتستعرض أفلاما كانت قيد التصوير في الأستوديو مثل فيلم “دم الغزال” من إخراج محمد يس وتصميم ديكور عادل مغربي، كما تستعرض ديكور فيلم “إبراهيم الأبيض” لأنسي ابو سيف 2008 كأكبر ديكور تم بناؤه في الأستوديو. في حين كان فيلم “هي فوضى” من تصميم حامد حمدان هو أكبر ديكور داخلي يتم تشييده في أستوديو مصر.
المعمل
يأتي العام 1999 ويقرر “كريم جمال الدين” إنشاء معمل تحميض في الأستوديو، ويتحدث أحد فنيّ المعمل عن الوضع قبل التحديث مشيرا إلى أنه حتى العام 1973 كانت المعدات قد تم استهلاكها، إن لم يكن بأفلام السوق فبمسلسلات التليفزيون العربي التي كانت على هيئة أفلام، ويحكي الكميائي عن المبنى الذي تم تغييره، وتهيئة أماكن به للطبع والتحميض وإنشاء صالة للعرض. فضلا على تجديد شبكة تهوية وتكييف وتوفير بيئة صحية للعاملين.ليعود للعمل منذ توقفه بعد أن كان يسمى مجازا “معمل التراب”. لكن تلك الصحوة لم تستمر طويلا إذ تدخلت الدولة لتنافس الأستوديو بأسعار تنافسية بمعمل مدينة الانتاج الإعلامي وليواجه معمل أستوديو مصر تسرّيب العملاء من المنتجين الذين يطبعون أفلامهم في الأستوديو. وليتضاءل عدد الأفلام المنتجة بدءا من 2009 حيث تأثرت السينما المصرية بالأزمة العالمية وحالت الأزمة الإقتصادية دون الاستثمار في صناعة السينما، ولتتغير تكنولوجيا التصوير والعرض بسرعة شديدة ولينتهي الأمر بقيام الثورة 2011.
تنهي “أسعد” فيلمها برحيل المدير الفني للأستويو وقيامه بجمع ملفاته استعدادا للرحيل والهجرة من البلاد.. تغيرت الأوضاع وتبدّل حال السينما ولم يعد هناك أُفق بعد خسارات الأستوديو الذي كان ليستمر لو نعمت الصناعةبظروف صحية أكثر. لكن “أسعد” لا تتركنا بتلك الحالة القاتمة، إذا تفتح بابًا صغيرا للأمل لتؤكد أن الصناعة لابد أن تستمر، لأن الأفلام ستبقى وكذلك الأحلام.
* عُرِض أيام قرطاج السينمائية 2019 وبسينما زاوية في مارس 2020.
منى أسعد.. مخرجة مصرية، درست الطب، ودخلت مجال السينما حينما عملت مع فريق الدعم الطبي في فيلم “وداعًا بونابرت” للمخرج يوسف شاهين، وعملت بعدها مخرجة مساعدة مع يسري نصر الله ورضوان الكاشف، كما عملت منتجةً منفذةً لعدة أفلام تسجيلية. وكان لقاء “منطقتي” معها بعد عرض فيلمها “في أستوديو مصر” ضمن عروض شهر مارس بسينما زاوية.
* كنتِ ضمن الفريق الطبي لفيلم “وداعا بونابرت”.. كيف كانت تلك التجربة؟
كان هذا الفيلم من أوائل أفلام الإنتاج المشترك بين أفلام مصرالعالمية وبين فرنسا. ومن ضمن شروط الجانب الفرنسي أن يكون هناك دعما طبيا، كنتُ طبيبة وأتحدث الفرنسية وأعرف مجموعة العمل، ووقتها كنت أعمل في هيئة المصل واللقاح وأحضِّر لرسالة الماجستير. وكانت مهامي في الفيلم تتعلق بالإسعافات الأولية وعلاج جروح المجاميع، فجاءت فرصتي لمشاهدة كواليس الفيلم والاقتراب من عالم السينما.
* وهل حدث تحول المهنة بعد هذا الفيلم؟
لا. حدث بعدها بـ 12 سنة. كنت وقتها طبيبة بهيئة المصل واللقاح -التي كانت في سبيلها للخصخصة- وأكتشفت حينها أن طموحي في المهنة الطبية محل تساؤل.
* ألا يشكل هذا تشابها مع ما حدث مع “أستوديو مصر”؟
بالفعل ولكن بطريقة عكسية.. لأنني وجدت نفسي أترك القطاع العام للعمل في شركة في القطاع الخاص (الإكسير) التي وللمفارقة تتجه لشراء مؤسسة من القطاع العام. وهذا إن لم يكن دراميا أو ملهما فعلى الأقل “دمه خفيف”.
* في الفيلم شاهدنا تصوير لأول زيارة لكم في “أستوديو مصر” واكتشافكم لكارثية الأوضاع وتفاوضكم مع المهندسة مسئولة الأستوديو، وكلها تفاصيل دقيقة ولافتة.. هل كانت لديك النية المبكرة لإنجاز فيلم عن هذا الحدث؟ ومتى قررتِ انجاز هذا الفيلم؟
قرار صناعة الفيلم جاء عندما قرر المدير الفني للشركة الرحيل واستشعاري أن ثمة قصة درامية أمامي، ورغبتي أن أسجل ما حدث حتى لا يُـقال أننا “بوظنا” الأستوديو. كان الدافع إحساسي بوجود تجربة لابد أن يتم توثيقها، ولو لم أقم بحكيها فلن يقوم بذلك أحد غيري. (أنا اللي عارفة الماتريال المصوّر وأنا إللي عارفة الناس وأنا إللي مهتمة أقول ده).. ما تشيرين إليه في الفيلم لم يكن زيارتنا الأولى للأستوديو، ولكن عملية تسليم الأستوديو أخذت وقتا طويلا لكثرة التفاصيل المتعلقة بالاتفاق، وكنت قد قررت أن أوثِّـق لحال الأستوديو وهذا ما كان. وقد استغرق انجاز الفيلم الفترة ما بين 2014 إلى 2018.. ولكن بصوة غير متواصلة.
* عملتِ مع عدة مخرجين: يوسف شاهين، يسري نصر الله، رضوان الكاشف، تهاني راشد. ما السمة الفنية الأبرز في كل منهم؟
الكاشف “نمكي” ولكنه لا يبدو عليه ذلك، علاقته بالممثلين جيدة ويجعلهم يقترحون ما لديهم، بعكس يسري نصر الله الذي يتسم بالدقة الشديدة وكثرة البروفات مع الممثلين. وعملت مع تهاني راشد التي كتنت تُصر على العمل بطاقم عمل صغير العدد. كانت مهمتي أن أسهل لها مهامها.
* لماذا التسجيلي كأول تجربة اخراج لك؟ ألا يجذبك الروائي؟
الروائي مشاكله كتير، ويحتاج سيناريو وممثلين وميزانية كبيرة، لكن التسجيلي في النهاية (من نوعية الأفلام التي ننجزها) تظل ميزانيته محدودة، الجميل في التسجيلي أن الفيلم التسجيلي الجيد يجعل الأشخاص الحقيقين شخصيات درامية.
* تناول الفليم قضية عدم وجود سينماتيك في مصر. هل لا زال هناك ضرورة لوجوده؟
نيجاتيف الأفلام هو ملك للمنتج ولسبب ما إذا تلف الفيلم فهل لا نستطيع بعدها مشاهدته! السينماتيك عمره ما يؤسس على النيجاتيف، ولكن على نسخ للفيلم، وإذا ما أرادت الدولة أن تنشأه فعليها أن تقوم بنسخ نيجاتيف جديد، وهو من المشاريع التي يتحمسون لها دائما ولا يتم تنفييذها. أهمية السينماتنيك أنه يحفظ الأفلام في حال اختفائها. وهو ضروري لأن الأفلام هي الأرشيف الوجداني والحضاري لأي بلد. فمن خلالها تكتشفين عن المجتمع الكثير. ثمة من يبحث عن عمل، وأحدهم يصر على تعليم ابنته اللغة االعربية كما في فيلم “غزل البنات”، يمكنك رؤية ليس طريقة التمثيل فقط، الناس في الشوارع، ملبسهم، حتى لو المعالجة سطحية أو كلاسيكية، وبذلك يمكن للسينما أن تفيد باحثي علم الاجتماع والأنثربولوجي أو أي مشاهد.

* الفيلم مليء بالأرقام وسنوات الانتاج وعدد الأفلام المنتجة في كل سنة. كيف قاومت الإفراط فيالتوثيقية وأنتِ تسردين قصتك؟؟
كان هذا هو التحدي في الفليم. أنا أحب أن أكتشف الجديد بمشاهدة أي فيلم. سواء معلومة أو حالة عاطفية أو مجموعة من الناس بكود معيشي لا أعرفه. لازم أستكشف. صادفت كتاب “طلعت حرب والسينما المصرية” وفيه تتوقف الأرقام عند العام 1056، وقررت أن أستخدم أرقامنا التي تحت أيدينا وقت وجودنا في الأستوديو، وحاولت ألا تُربِك المتلقي.
* هل يعلن فيلم “في استوديو مصر” وفاة الشريط السينمائي؟ وهل يموت الوسيط الفني؟
آه طبعا. هو مات في صناعات السينما الصغيرة، لكن في صناعات السينما الكبيرة لم يمت بعد. في أمريكا مثلا لا زال المخرجين الكبار مصممون على استخدامه، لكن هناك واقع لا يمكن تجاهله وهو أن شركة “كوداك” للأفلام لم تعد تنتج خاما سينمائيا كما كانت تنتجه في الماضي، وتقلص عدد المعامل حول العالم. أن يموت الوسيط حدث قبل ذلك بالفعل. فشريط الماجناتيك الذي كنا نسمعه في الكاسيت لم يعد يُنتج الآن. ولكن ميزة الشريط النيجاتيف أن قدرته الإستيعابية لمعلومات الصورة لا تزال أكبر بكثير من قدرات الديجيتال. حتى باستخدام الـ k4 فتدرجات الألوان عليه تصل للآلاف بخلاف الديجتال، كما أن عمر الشريط السينمائي معروف ومقدَّر بخمسين سنة ويجب عمل نسخة منه للحفاظ على الفيلم. في حين أننا لا نزال لا نعرف العمر الإفتراضي لقدرة الديجتال على الاحتفاظ بمعلومات الصورة عليه.
* كيف أثر قرار شاهين ورغبته في العمل في “أستوديو مصر” في تصوير ومونتاج على الأستوديو؟
شاهين مُحب للسينما. وكان يُكلِّـفها، ولم يكن يبخل على الجودة التقنية للفيلم، بعكس منتجين آخرين كانوا يكلفون الفيلم أقل. وبالتالي كانوا يقللون من جودة المنتج الفني للحصول على ربحهم، والجمهور لم يكن ليفرِّق بين فيلم ذي جودة عالية من آخـر ذي جودة أقل.
* ما المشروع الذي تعملين عليه الآن؟
القادم سنكتشفه، الاستثمار المبدئي في السينما أصبح أرخص. أي منا يستطيع انجاز فيلم وبرامج المونتاج أصبحت في البيوت، ولكن يظل التوزيع والسوق هما التحدي الأكبر، افتقدنا سينما الدرجة التالتة” التي كانت تحوي 3 أفلام بفشار ومهلبية، صناعة السينما تغيرت كان بعد نزول الفيلم في سينمات الدرجة الأولى يأخذ دورته في سينمات أخرى، و جمهور الفيلم اختلف.
فيلموجرافيا
منى أسعد سيناريست ومخرجة ومنتجة فنية
مساعدة في الإخراج:
المدينة 2000
جنينة الأسماك 2008
بعد الموقعة 2012
استوديو مصر 2018
منتجة منفذة:
جيران 2009
نفس طويل 2012