أكثر من 1000 عام عمرها.. وأكثر من 10 مليون نسمة تعداد سكانها ولا زالت القاهرة تلهم عابريها.. يمكنك الارتكان إلى رأي المرتحل السيَّـار فانطباعه بالقوة والطزاجة الكفيلتين بالثقة فيه.. شعور خالص ونقي يحمله تجاه مرئياتها.. شعور متدافع وقوي يخرج من تفاصيل العمارة إلى فلسفة العمران ويشهد تحولات المكان وأطوار تغييره.. حتى ليكاد يُـقدم هو الآخـر رؤاه حول المدينة.
هنا.. يقدم الفنان الإيطالي كارمنييه كارتولانو رؤاه الخاصة بالعاصمة في معرضه المقام في 15 ش محمد بسيوني بجاليري مشربية.
أكثر من عشرين عاما هي عمر إقامة الفنان البصري “ك. كارتولانو” بالقاهرة.. كارتولانو الذي يعتز بأصوله الإيطالية ويذكِّـر دوما أصدقائه بها؛ لا يخفي في الوقت ذاته اعتزازه وحبه للقاهرة التي اختار المكوث فيها بإرادته:
“أنا بحبها زي ما بتحبوها.. بس أعتقد إن أنا أكتر لأني اخترت.. اخترت المدينة دي بالذات.. أنا ممكن أسيب المدينة دي بين يوم والتاني.. ولما بيشتكي الأجانب بقولهم اتفضلوا امشوا.. معاكم الباسبور بتاعكم”
لكنته العربية تبدو سليمة وطيف اجتهاد يخايل مسامعك وهو يتحدثها.. لكن صوره التي ابتدعها تبدو راسخة متماسكة حتى لتخال أنها حقيقية، وهو ما حدث بالفعل حين صمم صورته الأولى لشارع صغير تعلو أحد حوائطه صورة للفنان الراحل “عزت أبو عوف” والتي انتشرت عبر مواقع التواصل الإجتماعي فور أن غادر الفنان عالمنا في 2019.
من هنا كانت سيناريوهات كارتولانو المحتملة للمدينة. ليخرج لنا عشرين تصورًا بعشرين لوحة يقتنص فيها العمارات التي لا توجد بها منافذ أو شبابيك لتكون لوحته التي يملؤها بمشاهد سينمائية من أفلام أجنبية وعربية شهيرة. أما عن اختياره لنجوم سينما راحلين ليكونوا أبطال لوحاته يبرر “كارمنييه”:
“هما نجوم وفووووق.. لو أنا عايز أكلم أحمد مكي ممكن أكلمه..الفنان بقى زيي زيه.. فيه ديموقراطية.. في حين قبل كده كانوا أقرب لآلهة.. كاري جرانت، فريد إستير.. أنا لاحظت أن السينما والكورة هم ما يتفق المصريين عليهم”.
“تركزت اختياراتي على نجوم هوليوود أولا.. كان عمر الشريف همزة الوصل بين هوليوود والسينما المصرية بس الصورة دي فيها التناقض بين الجمال والعشوائية”
الجرأة التي تكتنف بعض لوحاته تنكز وعيك بالمدينة وتحفزك على إعادة تصورها والنظر إليها.. ربما يُدهشك أن تطل عليك “سعاد حسني” بطول المبنى الذي يقوم بتنظيفه عاملين على سقَّـالة وينظر أحدهما إلى سعاد ببهائها الصريح على واجهة بنك الإئتمان الزراعي في شارع القصر العيني. تبدو سعاد مدهشة بإريوسيتها وبحجمها أمام أعين صغيرة متطلعة نحو ربة الجمال والجاذبية، وستدهش وأنت ترى “عمر الشريف” مستلقيا في وداعة بصدرٍ عارٍ على جانب أحد البيوت المتهالكة.. أي ممكنات يتيحها الخيال حين يجاور الجمال العشوائية ويخرج من رحمها؟!
“تركزت اختياراتي على نجوم هوليوود أولا.. كان عمر الشريف همزة الوصل بين هوليوود والسينما المصرية بس الصورة دي فيها التناقض بين الجمال والعشوائية”
هكذا تقف الست بشموخها المعتاد على واجهة عمارة عالية أو يتقافز “فريد إستر” في واجهة جانبية لإحدى عمارات شارع الفلكي.. يستغل “كارمنييه” شحنة الزمن وشحنة السينما منتجا طبقات للتأويل لأي صورة سينمائية كلاسيكية. هذه الاستعارة التي يقدمها “كارتولانو” أقرب للديكوباج النفسي. قص ولصق في طبقات الزمان مقدِّمـا عاصمة إفتراضية أحد أبرز سماتها بعدها عن النخبوية.
يقول كارمنييه مشيرا لإحدى الصور: “شارع محمد علي صورة لولو برجيدا.. الجمال في كل مكان لولو تنتظر أحدهم ينزل من السلم لتكون في استقباله”
أي مفارقة تلك؟ وأي طُـرفة؟
“أنا مش بجيب فلوس من الفن، أنا بعمل فن عشان أستمتع، وعايز الناس تستمتع وتفكر، بالنسبة لي طلابي ف الجامعة بيقولوا ده كويس.. أنا عايزه يبقى واعي بالمدينة والمكان اللي عايش، أنا بقول نحسِّـن الموضوع.. هو نقد للمجتمع ولينا كلنا”.
يعمد “كارمنييه” إلى البساطة في التكنيك المستخدم، تاركا يديه فلا تشنج فني ولا مواجهة أو تحدي مع الحرفة.. يذهب إلى الحلول البصرية السهلة.. مع تدخل تقني في أدنى حدوده، عاكسا ثقته في شخصيته وفي أدواته دون استعراض لعضلاته الفنية.
“ده خامس معرض في مشربية.. أنا عايز اقول حاجات.. الحاجة دي بالطريقة دي.. اللي محتاج فوتو شوب أوكيه أو تطريز، بحط كتابة وبحط حبي للتصوير، للألوان، حبي للناس.. شغل فيه مضمون، بحس إن هو تقيل.. شكله خفيف وبسيط بس بحس انه فيه حاجات كتير جوه، فيه جنان وحزن ووحدة”
يخيّل إليك أنه متصالح مع المدينة يرى قبحها بوعي ومتصالح معه.. بلا فذلكة أو تقعر استعلاء.. لا رؤية إستشراقية للقاهرة رغم أنه دائم الإعلان عن إيطاليته.
“جنوب إيطاليا مش مختلف عن مصر.. من خلال مصر أنا شيلت الحاجات إللي مش مفيدة عندي.. في مصر أنا حسيت إن المبادئ هي الأهم”
ما يبدو لنا مهما في معرض “كارمنييه كارتولانو” هو طريقة العرض الجديدة التي ابتدعها، للوهلة الأولى تشعر بهذا الزخم الشكلي المتنوع، في الصالة الأولى تقابلك ترديدات لنفس الصورة بنفس الحجم وكأنها متوالية بصرية لإعلانات الكباري بتكرارها على أعين المارة. ولكن ثمة أُلفة مقامة مع الصور لا تدرك سببها إلا بالتوغل في المعرض. عند مرحلة ما ستكتشف خدعة “كارمنييه” الطريفة!!
أنت أمام نفس الصورة ولكن بحجم مختلف ووسط مجموعة جديدة من الصور المكررة أيضا، لكنه كمدينتنا صاخبة، خادعة ومحبوبة. تتناسب هذه الطريقة مع مفهوم ورؤية كارمنييه حول فنه.. فكرة المستنسخات.. والفن الذي يصل لمتلقيه delivered بل الفن لمستحقيه.
“الشغل بتاع الــ Creator. “فلافيا مالوزار” منسقة المعارض. وهي درست فن إسلامي وحديث وعاشت في مصر لفترة.. وطلبتها للعمل معايا لأني محتاج طاقة بخلاف طاقتي وماكنتش عايز عرض الصور بطريقة متوالية وسعدت بالترتيب ده.. تكرار الصورة لـ 20 صورة.. قصة في نظام الصورة.. من الصورة دي للصورة دي.. ندخل من صورة لأخرى مختلفة هنا عن هناك ومن حجم لحجم.”
هنا.. يقيم “كارتولانو” كولاجا على مستويين. على مستوى العمل الفني وعلى مستوى التلقي.. أحجام مختلفة وترتيب مختلفة وكأننا بصدد سردية جديدة كل مرة.. ربما تناغم هذا مع المانيفستو الذي يتبناه “كارتولانو”: لدي أقوال أخرى.. رؤية ثانية للمدينة. بل رؤى. فيتمثّـل بذلك المدينة بعشوائيتها وعفويتها وربكتها حين يعتمد الرؤى الإنشطارية والاختيار من متعدد.
الفن للجميع
“فن للجميع” هكذا يريد كارمنييه أن يكون الفن مشاعا بين أبناء المدينة. لذا سيعبر في إحدى صوره امرأة ورجل من أمام إحدى بواكي المصمتة في شارع محمد علي وقد اعتلتها لقطة سينمائية من فيلم “حبيبي دائما”، وفي حين تشع الحميمية والمودة بين نور الشريف وبوسي؛ يرزح أبناء المدينة من العابرين أسفلهما تحت وطأة السأم والرتابة. لتكوِّن تساؤلاتك حول المدينة وكيف تغيرت وتغير بشرها حتى صاروا مشاة مطأطي الرؤوس.
“حافية على جسر الذهب” قصة الحب الأيقونية التي شكّلت وجدان المصريين وتركت أطيافها في ذاكرتهم الجمعية تتجسد على جدران المدينة. وحين نسأله لما تحديدا هذا لفيلم يجيب:
“مش كنت عارف، عملت منظور بسيط في صورة حسين فهمي قدام البطلة”
ستتكرر الثنائيات على الواجهات الجانبية للعمارات التي انتقاها كارمنييه سيطالعك همفري بوغارت وإنغريد برغمان وكاري جرانت وإحدى بطلات أفلامه عمر الشريف وفاتن حمامة على واجهة مجمع التحرير، لتسأل نفسك ما مصدر الشجن في هذه اللوحة؟ هل هو إلتقاطها ليلا أم وجود بركة مياه في أماميتها كوَّنها المطر ذات مساء؟ هل تتوقف جاذبية تلك الصورة على توقيت التقاطها أم لكونها توحي بوجود انعكاس للثنائي الشهير عبر بروجيكتور عملاق يغطي واجهة مجمع التحرير ما يجعلنا نتساءل: ماذا لو بدأ كارمنييه مشروعه الإفتراضي عبر عروض الشرائح على أشهر الواجهات في مياديين القاهرة التاريخية. ميادين التحرير وطلعت حرب ومصطفى كامل ومحمد فريد.. أو حتى واجهة قصر عابدين الممتدة بعرض القصر.. قبل أن تتجسد تصميماته مطبوعة على مبان القاهرة.. ماذا لو أضحى الإفتراض واقعا؟ ماذا لو تحققت الأحلام؟