
بين الصدق الفني والصقل الفني تراوحت أفلام مهرجان زاوية للأفلام القصيرة في دورته الخامسة.. المهرجان الشاب الذي تطور سريعا يعكس عبر اختياراته المشهد السينمائي المستقل في مصر. أفلام طلبة ومستقلين وأخرى منتجة لصالح شركاتٍ خاصة اتسمت جميعها بالأصالة الفنية وعكست شغف وهواجس واهتمامات جيل سينمائي قادم.. “منطقتي” كانت هناك طوال أيام المهرجان.
ملمح واضح في كثير من الأفلام المشاركة في المهرجان وهو استلهام الذات المبدعة في العمل الفني لتكون موضوعه سواء تصريحا أو انعكاسا على السرد.. لذا صادفنا أفلاما يمكن أن تٌـصنّف تحت مظلة أفلام المرجعية الذاتية أو أصداء السيرة.
فيلم “اربطوا أحزمة مقاعدكم عند الجلوس” سمير رضوان
على قِصر مدته الزمنية هو أحد الأفلام التي تعلق بالذاكرة. فمن مشهد عابر لطفل يرقب السحب من شباك الطائرة يتلصص المخرج “سمير رضوان” على هذا الطفل الذي يجد فيه معادلا فنيا له ومدخلا سرديا ملائما لقصته كطفل أغلى أمانيه أن يطير فوق السحاب ويعبر الحدود والثقافات واللغات ومن ثمّ الهُـويات. يُسائل نفسه عن ممكنات الارتحال وعوائقه بين الثقافة الأم بحكم النسب ومكان الولادة، وبين ثقافة أخرى مختلفة بحكم المعيشة والتكوين.. وبين القديم والمكتسب يطرح رضوان أسئلته ويعلن عن مراوحته بينهما. أيهما يستطيع المكوث فيه.. وأين المستقر؟
فيلم “في الصورة” دانا عناني
لا زال شبح الهويات المزدوجة يتردد في في الأفلام المشترِكة في المهرجان.. العيش في بلد آخر -حتى لو كان عربيا- يخلق ارتباكا ما التقطته “دانا عناني” وجسدته عبر رصد حكايات العيش في المملكة السعودية.. تبدأ “دانا” بالاعلان عن الولاء لأسرتها وأفرادها وتصريحها بأنها تتشرَّف بالإنتماء إليهم وتستعرض صورة لأفراد أسرتها في مناسبة عائلية. تحضر الفوتوغرافيا بشكل بارز في الفيلم: صورها وهي صغيرة.. صور والدها ووالدتها التي احترفت الاغتراب. كما يحضر التشكيل واللعب الكولاجي في مرئيات الفيلم حيث تبدأ فيلمها برسم منزل كبير وتزين الصور الفوتوغرافية بقلوب ونجوم كما الأطفال.
تطرح “دانا” سؤالا يمس قطاعات كبيرة من الطبقة المتوسطة التي سافر كثيرون منها للخليج بدءا من السبعينيات. أكان لزاما عليهم السفر والعيش لتأمين مستوى معيشي لائق؟ أم كان من الأفضل المكوث في مصر؟ تبحث “دانا” عن الوطن الذي يبدو جيدا أنها تعرف أين يكون، في حين تستسلم والدتها مرغمةً للهاث التحقق وتأمين حياة ابنتها بالعمل في شركة كبرى ولكن في دولة خليجية أخرى.

الأسلاك الشائكة والأسوار المسيَّجة ستحضر بشدة في الفيلم الذي ينتهي بمحادثة تليفونية بينها وبين أمها المتعبة فور انتقالها لعملها الجديد حيث الإنهاك التام والحاجة للنوم لبدء يوم جديد يتوجّب عليها تحقيق أعلى الأرقام بنهايته.
فيلم “2090 كيلو متر” علي سليمان سالم
في أثناء دراسته في ألمانيا يعاني الشاب المصري من الحنين للوطن، فيستعيد ذكرياته في منزل الطفولة ويضاهيها ببيئته الجديدة. يستخدم”علي” أفلاما فوتوغرافية قديمة كانت في حوزته وتحتوي على صورا لبيته ولوالدته. يستحلب في ذاكرته مشاهد ومسامع من القاهرة: برامج الراديو الصباحية وأصوات المجال العام الذي يلف سكان القاهرة. وكذلك ونس لبيوت والأصوات التي تتهادى من المنور.. يستجلب كل هذا الصخب المحبب لعله يُـؤنِسه في غربته التي تبعد عن منزله مسافة 2090 كيلومترا.
وفي ألمانيا أيضا ستهيم الطالبة المصرية في المدينة الأجنبية وتوثِّـق لحالتها من خلال فيلم “تأملات خلال الصيد” لسلمى سالم. في هذا الفيلم تترصد “سلمى” الثعالب البرية حين تزور المدينة. ربما وجدت فيها مقاربةً ما بينها وبين الطارئ الغريب الذي يستكشف الأمكنة. ستأخذتا في جولة سريعة في عالم المهاجرين السوريين في ألمانيا. هؤلاء المهاجرين العرب كالثعالب البرية أيضا. يهيمون ليلا مكتشفين المدينة ومتلمَّـسين مستقبلهم فيها. أخيرا.. وسينتهي الفيلم بحفل زفاف عربي في شوارع برلين بإضاءة معتمة حيث مصابيح الشوارع لا تكفل إستضاءة مناسبة لنرى الوجوه والأحداث شائهة مضببة بفضل الإضاءة المنخفضة.. أخيرا.. تنجح “سلمى” في التقاط ثعلب ليلا في جُـنح الظلام وتصوره أو لنقل تقتله مجازا وفق الترجمة لفعل التصوير بالإنجليزيةshooting من هنا يأتي عنوان الفيلم فنيا ولائقا حين تسرد تأملاتها حول القنص أو التصوير.. الفيلم مُـهدى لروح مصور شارع كان قد التقط صورة لثعلب واحتفظت “سلمى” بها وأسست عليها فيلمها.
ولا زالت المدن تشكل هواجس صناع الأعمال ففي فيلم “شوكولاتة داكنة” لعمرو مصطفى يطرح أسئلته حول “الزمالك” ذلك الحي الأرستقراطي العريق، ويبحث عن سكانه الأوائل من خلال مخرجة تنجز أول أفلامها عن الحي، وتواجه أزمة مع حبيبها الذي يعود من الخارج وتستبقيه تارةً في الواقع، وأخرى في سيناريو فيلمها المتخيل؛ ليتداخل الواقع بالخيال أو الأمنيات. اللافت في هذا الفيلم هو نزوعه التجريبي من حيث البناء. لكنه تجريب محسوب يتفاعل معه المشاهد ويتقبله، وهو يعكس ككثير من التجارب السينمائية الأولى هواجس صانعه إزاء انتاج أول أفلامه.
وفي فيلمه “تارتاروس” لعمر إلهامي نلمح إخفاء متعمد للمدينة وعمرانها خاصة في ظل وجود لغتين وجنسيتين، ففي مجتمع الجالية اليونانية بالأسكندرية نتعرف على رجل يوناني يظهر له شبح ضحيته لتحذيره من القصاص الواجب والمستحق. ورغم تجوّل الكاميرا في الشوارع ليلا إلا أن المُشاهد لا يتعرف على المدينة ويظل يراوده الشك بشأنها، فربما تكون مدينة يونانية حيث الشر ممكن الحدوث في أي مدينة بالعالم، وخاصة حين نعلم أن “تارتاروس” تعني الجحيم باليونانية.

ولكن ماذا لو انتهت المدينة وفنت؟؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه فيلم “أبوكاليبس” لرامي علام وأحمد شماع من خلال الكوميديا السوداء التي تتناول رؤية ساخرة لكيفية تعامل المصريين مع الكوارث، حيث قضت الجائحة على المصريين ممن هم في الثلاثينيات من عمرهم، وعبر الصامدين منهم بفضل إرتدائهم لأقنعة الغاز الخاصة بتنقية الهواء الملوّث نتجول في المدينة الفارغة إلا من الجثث، حيث البيوت المهجورة والشوارع الممتدة بلا بشر. وقد اختار صناع الفيلم أن يكون بالأبيض والأسود عن عمدٍ، وكان التلوين الصوتي هو محك التمثيل والأداء الدرامي حـلا لتحدي إخفاء وجوه الفنانين بأقنعة الغاز.
فن للفن أم فن للحياة
لطالما طُرحت هذه القضية على الساحة، هل تتوجّه الفنون (ومن ضمنها الفن السينمائي) للجمهور وأموره الحياتية؟ أم يتغيّا المُـثُـل الفنية على إطلاقها دون أن تشغله قضايا المجتمع؟ وطالما وُصِمت السينما التي تحمل مضامين اجتماعية بتهمة التعبوية والدعاية. وأصبحت صرعة مـرَّ عليها الزمان إلا ما ندر من أفلام. هنا يأتي فيلم لما جت عشرة” لجيلان عوف ليجمع بين الطرح الفني والقضية الهامة وليصير فيلما فنيا رغم تناوله لقضية الختان وما يترتب عليها من أثر نفسي على الفتاة ثم الزوجة وحتى حين تصير أمـًا. من خلال زوجة وأم بصدد أن تجري لابنتها عملية الختان في إحدى العيادات لتتذكر ما مرت به حين كانت طفلة وكيف أجريت لها هي وبنات العائلة هذه العملية بطريقة بدائية على يد سيدة عجوز. وتقرر الا تخوض ابنتها تلك التجربة فتُـوهِم زوجها أنها أجرتها لها من خلال سرد متلاحق ومتبادل بين الذكريات والوقت الحاضر، ومع إيقاع موتِّـر. وعلى حسِّـه النسوي الواضح إلا أنه فيلما يمس النساء والرجال.

أيضا جاء فيلم “فـخ” لندى رياض بهذا الحس النسوي. الفيلم الذي نال تنويها خاصا من لجنة تحكيم سينما الغد بمهرجان القاهرة السينمائي 2019 يدور حول الوصم المجتمعي الذي تناله الفتاة لو تورطت في علاقة خارج مؤسسة الزواج الرسمي. لتظل حبيسة هذه العلاقة فلا هي بالقدرة على الفكاك منها ولا تسلم من محاولات الآخرين على استباحتها بدورهم. تميز “فـخ” بموود فيلمي قاتم وجرأة نسبية في تناول بعض المشاهد.
أفـلام طموحة
التحليق الفني يأخذ أحمد دحروج في تجربته الإخراجية الأولى “غــراب البين” مشروع تخرجه في معهد السينما، ونلمح فيه هذا الطمع الذي ينتاب صناع الأفلام في تجربتهم الأولى، حيث الزخم البصري والرؤيوي، ورغبتهم في تقديم أنفسهم ككتاب نصوص ومخرجين بل وممثلين أيضا. وهو ما فعله “دحروج” في فيلم اتسم بالعناية البصرية الشديدة دون وضوح لرؤيته الفكرية بالقدر نفسه.
نفس الطموح الفني ينتاب غادة عيسى في فيلمها “أنا بدوي”. والذي يخيَلك أنه ينتمي إلى السينما الإثنوغرافية لمضمونه الذي يتناول أهل الصحراء في سيناء، حيث الإيقاع السريع والروح الإستشراقية التي تستكشف عالم البدو المرتحلين. وبعد تمهيدين سريعين بعنوان “البداية” و”التكوين” تكتشف انتهاء الفيلم. ويمكن اعتباره بارتياح أحد الأفلام الترويجية السياحية التي يمكن عرضها على شاشات التليفزيون.
أما محمد طارق فيأخذنا في إطلالة على المشهد الغنائي المصري المعاصر حين يلتقط شخصية غنائية سكندرية لينجز عنها فيلمه “مروان بابلو.. ملك التراب في مصر”. الفيلم المتاح على اليوتيوب يستعرض أحد نماذج مغنيي الراب ومؤلفي الموسيقى البديلة، ويتتبع رحلة أول حفلاته في الإسكندرية. يكمُـن سحر الفيلم في ثراء شخصية البطل نفسه بطموحه وجموحه ووعيه بما يقدمه واختلافه النوعي عن سائر أنواع الموسيقى الرسمية من حيث الذائقة وآليات الانتاج والعرض الجماهيري.
بينما يستعرض “ارتباك” لمحمد حسين أنور تأثير السوشيال ميديا على حياة الأفراد. فبعد أن تصل الرسالة بطريق الخطأ لتليفون ابنته بدلا من حبيبته؛ يوافق الأب على ذهابها لرحلة المدرسة التي كان يرفض اشتراكها بها. وذلك في مقايضة ضمنية بينهما، سكوتها مقابل مزايا نسبية مكتسبة لم تكن لتحصل عليها في الظروف المعتادة. وطوال الفيلم الذي تم تصويره باستخدام كاميرا Sony7S نرى أحداث الفيلم بمقطع طولي وليس عرضي تجسيدا للارتباك الحادث لأبطاله واستعارةً لمنظور الهاتف المحمول الذي نتعامل من خلاله مع تطبيقات مواقع التواصل الإجتماعي.
سخرية أم مسخرة ؟!

منذ أن شاهده الجمهور في القاعة استشعر ألفة وإعجابا نحو فيلم “حدث ذات مرة على القهوة” لنهى عادل حيث مباراة مصر وروسيا تذاع على التليفزيون في قهوة بمنطقة “ميت عقبة”، وحيث أطياف المجتمع المصري تجتمع لمتابعة الحدث الذي سيكون انعكاسا لتفاعل هذه الفئات التي تضم أطفالا وطلاب جامعة أمريكية ومسلمين وأقباط بل حتى نساءا أجنبيات. وعبر حوار شيق وظريف تستعرض “نهى عادل” كيف تتنمر كل فئة من المجتمع بالفئة الأخرى، وكيف تتنافس هي الأخرى بالموازاة مع مباراة الكرة، وكيف ينتقم أفراد هذا المجتمع مع بعضهم البعض في معارك صغيرة ساعيين لتحقيق انتصارات زائفة. الفيلم الذي لم تستعن فيه مخرجته بممثلين محترفين امتاز بالعفوية وخفة الظل الشديدة.
يبقى فيلم “أمين” لأحمد أبو الفضل أكثر أفلام المهرجان تميزا والتصاقا بذاكرة مشاهديه. حيث المعالجة الفنية الخلّاقة والوعي الواضح ومن قبلهما شغف عال بالسينما حرفة وفكرا.

سيكون تلخيصا مخلا بالفيلم إذا ما تحدثنا عن وقائع أحداثه فقط. كيف يتأتَّى لمخرج الحصول على آخـر أربعة عشر دقيقة صورها المخرج “شادي عبد السلام” ويُـعـهَـد لهذا المخرج الشاب إتمامها كفيلم طويل، وتسري أنباءا عن سرقتها ويطارده أفراد مجهولون لاستعادتها. هكذا تكون الرؤية التي تتناقلها وسائل الأنباء في بداية الفيلم. لكن ثمة طبقات أخرى في الفيلم، فإختياره تحديدا لــ “شادي عبد السلام” يشير إلى رهاناته الجمالية ويعكس ذائقة سينمائية خاصة، كما يوجِّه تحية دفينة لسينما “شادي عبد السلام” بإيقاعها المتأمل ولقطات الـLandscape التي تناثرت في الفيلم. كما التزم بموود فني أميل لمظهر صورة الأفلام في فترة الثمانينيات. يكتب مخرجنا الشاب مذكراته أو وصيته التي جاءت على هيئة اعتذارات لكل من خذلهم.. حبيبته، سينماه.. أفـلامه التي أراد أن ينجزها ولم يستطع سواء لقلة التمويل أو للكسل، يكتب كقاصٍ بارع بنزوع تجريبي محسوب في سرد قصته. يسكب هواجسه ومخاوفه في أن يكون مستنسخا من مخرج عظيم يرث شرائطه السينمائية وذائقته الفنية قبل أن يغرّد بصوته الخاص ويُـسمعه للعالم، مطارد من مجرمين عتاة يريدون الحصول على تلك الشرائط والتي يخفيها ويدفنها في الصحراء. لا ندري هل انقطع خيط السينما النقية أم أنها جديرة بالدفن والاختفاء؟ ليبقى سؤال المنجز عالقا في ذهن صانع العمل ولا يمل من طرحه على جمهوره.. ماذا لو مضى العمر دون أن تقول مقولتك؟ وما جدوى الموهبة في مجتمع يطارد الجمال بالأساس؟ وتستفزه الموهبة؟!

على جمال هذا الفيلم وعذوبته، وعلى وعي صانعه وحرفته، وعلى إحكام قبضته على السرد نصًا وبناءًا وتجسيدًا على الشاشة كان من المستغرب ألا يحصل على أية جائزة أو حتى تنويها أو شهادة تقدير.
اللافت في أفلام الدورة الخامسة من مهرجان زاوية للأفلام القصيرة، وفقًا للمخرج والممثل بسام مرتضى والذي أدار ندوات المهرجان، هو ذلك التوّجه لاستخدام الخام السينمائي وأفلام الكاميرات الفوتوغرافية ضمن مرئيات الأفلام بجوار تقنية الديجتال. وكأن صناع الأعمال قد ملُّـوا من التقنيات الحديثة ورغبوا في تجربة وسائط أخرى لها تأثير نوستالجي. أو ربما كانت موجة للعودة للأصول أو الجذور وكأن الوسيط الرقمي لم يعد كافيا أو مشبعا.
تشكَّـلت لجنة التحكيم من كل من المخرجين: يسري نصر الله، هبة يسري، علي العدوي.

وذهبت جائزة لجنة التحكيم: “حدث ذات مرة على القهوة” لنهى عادل والجائزة مقدارها 10000 جنيه مقدمة من شركة “نيوسينشري”.
جائزة الجمهور “حدث ذات مرة على القهوة” لنهى عادل والجائزة مقدارها 10000 جنيه مقدمة من شركة “فيلم كلينك” .
جائزة أفضل مخرج لندى رياض عن فيلمها “فـخ” الجائزة مقدارها 10000 جنيه مقدمة من شركة “مصر العالمية”.
جائزة أفضل فيلم “في الصورة” لـ دانا عناني الجائزة مقدارها 15000 جنيه مقدمة من شركة “رِد ستار”.
وتنويه خاص لفيلم “أبوكاليبس” لرامي علام وأحمد شماع.