ثقافة
“نأسف لأنك لم تجدنا”.. فيلم إنجليزي بنكهة “عاطف الطيب”

ما الذي يدفع سائق شاحنة الطرود للذهاب إلى عمله وهو يعاني من كسور في اليدين ورضوض بجميع أنحاء جسده واحتمال تلف في الرئة؟
في فيلم “نأسف لأنك لم تجدنا” والذي كان فيلم الافتتاح لبانوراما الفيلم الأوروبي في دورته الثانية عشر يقرر البطل أن يتحرر من محاصرة أسرته التي تحاول اقناعه للمكوث في البيت حتى ينتهي من التعافي إثر اعتداء وقع عليه بالأمس وأسفر عن اصابات بسائر أنحاء جسده، يتركنا الفيلم وقد نجح البطل في الإفلات من زوجته وابنته الصغيرة وابنه المراهق الذين حاصروا شاحنة الطرود التي يعمل عليها، تاركا إياهم ومنطلقا في طريقه.
منذ الوهلة الأولى يذكرك الفيلم بسينما عاطف الطيب، ليس فقط بسبب الموضوع الذي يتناول السعي إلى العدالة الإجتماعية، بل في كثير من السمات الأسلوبية للطيب ولسائر روّاد الواقعية في السينما المصرية. لغة سينمائية مقتضبة دون الاقتراب من غنائية تشكيلية أو استخدام مفرط للبديع البصري، شخوص طبيعية وتصوير في الشوارع والأماكن الحقيقة، وأداء تلقائي وعفوي دون مغالاة في الانفعال أو ردود الفعل، والأهم.. موضوع إنساني يعالج قضية اجتماعية ملحّة.
كين لوتش مخرج الفيلم الإنجليزي والمعروف بحسه الإشتراكي والتزامه السياسي نحو قضايا العمال يعود في فيلمه الأخير ليعيد انتاج نفس الموضوع بعد 53 سنة من فيلمه الأول “كاثي تعود للمنزل” والذي دار حول البطالة، وكذلك موضوع فيلمه الأخير والذي نال عنه السعفة الذهبية في مهرجان كـان 2016 بفيلمه “أنا دانييال بلايك”. الذي يتناول نظام العمل الإنجليزي ليؤكد أنه يُخرِج نفس الفيلم كل مرة.
يبدأ الفيلم بمقابلة عمل يتقدم إليها “ريكي” الذي تنقّـل بين العديد من الوظائف بعد انهيار الشركة التي كان يعمل بها، والتي فقد بسبب افلاسها مقدرته على اكمال رهنه العقاري، وبالتالي فقد تعثًّـر حلمه في امتلاك بيت له ولأسرته فأصبح يستأجر مكان إقامته الحالي.
في المقابلة المهنية التي يخوضها “ريكي” يسأله رب العمل لماذا لم يتلق إعانة حكومية؟ فيخبره أن كرامته لا تقبل الإعانة مادام قادرا على العمل. يطمئنه رب العمل على أنه يعمل معه وليس عنده. وأنه بإشتغاله في مجال تسليم الطرود فإنه يتحول من موظف إلى صاحب عمل. يقبل “ريكي” العمل على الرغم من قسوة الاشتراطات في هذا المجال من توقيتات تسليم يجب الالتزام بها وغرامات كبيرة في حالة التقاعس أو التأخير، والغرامة اليومية التي تصل إلى 100 جنيه إسترليني في حالة الاعتذار عن العمل دون توفير سائق بديل، وكذلك مراقبته إلكترونيا عبر جهاز تسليم الطرود الذي يسجل تحركاته وأوقات التسليم وزمن الرحلة وخط سيرها والذي يخبره رئيس العمل أن عليه أن يبقي هذا الجهاز سعيد إذا ما أراد أن يكون هو نفسه سعيدا دلالة على أهمية الجهاز القصوى وتحفيزا لريكي على الالتزام.
يدفع “ريكي” زوجته “آبي” إلى بيع سيارتها للحصول على شاحنة الطرود التي سيؤسس بها عمله الجديد والذي سيمكّنه من شراء بيت لأسرته، وببدء العمل نستعرض مع “ريكي” مقطع أفقي للمجتمع الإنجليزي، وكذلك عبر عملاء زوجته التي تعمل في مجال الرعاية الطبية للعجزة والمسننين.
مهنتان مختلفتان، إحداهما تعتمد على نقطة تماس صغيرة وقصيرة بين رجل الطرود والمستلم، والأخرى قوامها التفاني والعطاء رغم التحذيرات من عدم التورط العاطفي أو تبادل المعلومات مع العميل/ المريض.. لكنهما تكفلان الغوص في شرائح المجتمع الإنجليزي المعاصر. لنجد المتعصب الكروي، والمتذاكي الذي يقبل الطرد في حين يرفض التوقيع بإثبات الشخصية، وكذلك السيدة المسنة التي كانت نقابية ذات يوم والتي تسأل “آبي” حين تجد جدول عملها يمتد لـ 14 ساعة: أين ذهب قانون العمل الذي يحدد ثمانية ساعات في اليوم للعامل؟ وبالعمل اللاهث الذي يعتمده “ريكي” يزداد التباعد بينه وبين ابنه المراهق الذي يهوى رسوم الجرافيتي هو وأصدقاؤه. وتضطرب ابنته الصغيرة لافتقادها أبويها اللذين يكدًّان في العمل لتأمين الحد الضروري من مستلزمات الحياة.
يمهلنا المخرج فترة لا بأس بها في بداية الفيلم نتابع ولفترة طويلة نسبيا مكان عمل “ريكي” الجديد حيث المستودع الذي يعج بالبشر والشاحنات قبل أن يستلم كل سائق شحنته اليومية من الطرود، وبهذا المدخل التأسيسي سيوفر للمشاهد التعرف على صاحب العمل الذي لا يقبل التهاون أو التقصير في بناء امبراطوريته، والتي يعترف أنها أصبحت أفضل شركة تسليم طرود في البلاد بفضل التزامه التام بجهاز التتبع الذي يسلمه لكل رجاله، وكذلك بفضل عدم قبوله أي عُـذر وتحت أي ظرف لأي من العاملين معه، وبالتوازي نجد ربة العمل في وكالة الرعاية التي تعمل بها “آبي” ترفض أن تحتسب لها ساعات عمل إضافية في منزل سيدة مسنّة تعاني من تردّي حالتها الصحية وإهمال أهلها لها، لنكتشف قوانين العمل التي تستعبد الموظفين وتبخسهم أجرهم.. فلا بديل مادي لساعات العمل الإضافية أو مقابل لمخاطر العمل المحتمل حدوثها أو بدلا للإصابات والحوادث.
كل هذا وابنهما “سيباستيان” الفتى المراهق يتباعد عنهما بفعل المراهقة وبفعل تنامي وعيه الثوري ضد مجتمع يزكّي التطلعات والاحتياجات غير الضرورية لأفراده ويجعلهم يلهثون وراء تحقيقها. وحين يسأله والده عن فحوى رسومه على حوائط المدينة يخبره أنها اعلانات مضادة لاعلانات التسليع التي تقتحم حياة الناس كل يوم.
شعور بالضيقين المكاني والنفسي نجده في منزل “ريكي” و”آبي”، والذي بدأ يشهد تكرار الشجارات وتعالي الأصوات بين أفراده، وهو الشيء الجديد في علاقات هذه الأسرة المتناغمة والتي ترفض عقاب أبنائها بالضرب تجنبا لتكرار تاريخ الأبوين الشخصي.
ورغم تمالك “ريكي” لأعصابه في كل مواجهة مع ابنه إلا أنه يفقدها أخيرا حين يتم فصله من المدرسة لتغيبه المتكرر، وتنشب مشاداة بينهما تنتهي بصفعه ليخرج “سيباستيان” من المنزل غاضبا، وليسأل “ريكي” نفسه أي ذنب اقترفه في ظل معاناته اليومية لتأمين احتياجات أسرته؟
بالنهاية يتعرض “ريكي” لسرقة طرود الهواتف النقالة التي كانت بحوزته ويقوم بضربه ثلاثة أفراد، ويصبون عليه بوله الذي كان في زجاجة في سيارته. فلا وقت للذهاب للحمام في ظل ملاحقة جهاز التتبع الإلكتروني الذي يحسب عليه أنفاسه قبل خطواته. ليتخضب بالدماء والبول في مظهر مذل لا يليق برب أسرة مكافح. وفي المشفى الحكومي حين ينتظر مع “آبي” نتائج الأشعة للكسور التي أصابت يديه وأضلعه يتلقى اتصالا هاتفيا من رب عمله، يخبره أن التأمين غطى شحنة الهواتف المسروقة، لكن عليه أن يتحمل الـ 100 جنيه إسترليني تكلفة اليوم الذي لم يكتمل فيه العمل لنهايته، فضلا عن كُلفة جهاز التتبع الإلكتروني الذي دمره اللصوص والبالغ كُلفته ألف جنيه إسترليني يمكن تقسيطها على دفعات. هنا تنفجر “آبي” الزوجة وتتناول الهاتف من يد زوجها لاعنةً صاحب العمل وتخبره أن زوجها مصاب بكسور واحتمال تلف بالرئة وهو يخبره بضرورة دفعه جنيهاته الألف مطلقة من فمها السباب واللعنات في لحظة انهيار سببها القهر لتستفيق وتتراجع وتعتذر لباقي المرضى فيضطرا للانسحاب والعودة للمنزل، في المساء يقابل “ريكي” ابنه في المنزل ونجده كسابق عهده بوداعته المعتادة ويسأله إن كان في حاجة لأي شيء. يخبره أنه بخير وأنه سعيد بعودته للمنزل.
في الصباح يُسمع هدير الشاحنة أثناء الحركة فيخرج “سيباستيان” ليجد أباه في الشاحنة وحين يسأله عن وجهته يخبره “ريكي” أنه في طريقه للمشفى للحصول على نتائج الأشعة، فيعلم كذبه وأنه في طريقه للعمل كي لا يتعرض لمزيد من الغرامات. تحاصره أسرته زوجته وأولاده محاولين اخراجه من الشاحنة فيناورهم ويرجع للخلف منطلقا لوجهته.
في نهاية مبتورة ودالة تخبرك بسعي “ريكي” الأبدي للفرار من مأزقه الإقتصادي الذي كلما حاول الخروج منه ازداد التصاقا به وغوصا فيه كبركة رمال متحركة.
هذه النهاية تعيد للذاكرة مشهد ضرب “سواق الأتوبيس” للص الذي وقع في يديه. نفس الحساسية الجمالية ونفس النهاية المفاجئة والبسيطة التي تتوِّج أحداث الفيلم التي تتابعت لترسم ملامح قهر البشر وتغيرات مجتمعاتهم في فترات التحولات الكُـبرى.. ومثلما كان الطيب يعالج في فيلمه “سواق الأتوبيس” تداعيات الانفتاح الإقتصادي في مصر، يتناول لوتش أثر البريكست أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتأثير ذلك على سوق العمل في المجتمع الإنجليزي. ربما بدت تلك المقاربة بعيدة وتعسفية، بحكم أن أفلام لوتش ووعيه السياسي وجهاده الفني كانوا جميعا أسبق من منجز عاطف الطيب زمنيا أو تاريخ كتابة محمد خان للقصة السينمائية. لكنها تؤكد على وجود هذا الهم في العالم أجمع شرقا وغربا.. هذا الهم الذي يتشاركه سينمائيون مهما تباعدت أماكنهم وأزمانهم. بل أنهم يتطابقون في أحيان كثيرة في طريقة تجسيدهم لأفكارهم تلك.
في إحدى نوبات العمل يأخذ “ريكي” ابنته معه لتسليم الطرود، وفي إحدى التوصيلات لا يكون المستلم بالمنزل تاركا ملاحظة ترك الطرد في الفناء الخلفي الذي يحرسه كلاب حراسة فيقومون بمهاجمة “ريكي” وقطع بنطاله. لتترك الصغيرة على إيصال الطرد ملحوظة للعميل أنه يدين لأبيها بطقم ملابس داخلية عوضا عن الذي نهشته الكلاب. الملاحظة كتبتها على استمارة تسليم الطرد في حالة غياب المستلم والمطبوع عليها بصيغة جاهزة عبارة:
“نأسف لأنك لم تجدنا” في إشارة لغياب الرعاية والتأمين والعدالة حين يبحث عنهم عمال اليوم. فهل مثل هذا الاعتذار البسيط يجدي معهم نفعا؟!
تعليق واحد