ثقافة
12 كــلـبـا فـى مـيـريـت!

عندما وصلتُ إلى دار ميريت للنشر الكائنة في شارع قصر النيل في الثامنة والنصف، مساء الثامن من مايو، كانت لِيلي كلبة الدار المحبوبة من نوع جولدن ريتريفر، قد أنجبت 4 جراء لا يزيد حجم الواحد منهم عن إصعبين. وعندما غادرتُ الدار في الخامسة صباحا، كانت قد أتمت عمليات الولادة المتتالية في سلام، والحصيلة: 11 مخلوقا صغيرا بالغ الجمال.

كنت في الدار بصحبة مجموعة من الشباب الفنانين الذين تحملوا مسؤولية رعاية ”ليلي” و “بوتشر” في فترة غياب المدير ”محمد هاشم” في معرض أبو ظبي الدولي للكتاب. ورحنا جميعا نتابع معجزات الولادة واحدة بعد أخرى. نراقب ”لِيلي” وهي تخرج الجرو الصغير محاطا بكيسه الشفاف، تقطع الكيس بأسنانها في حنان وتأكله، ثم تقطع الحب السري، ثم تروح تلعق الابن الذي يصرخ مندهشا من الحياة حتى يهدأ قليلا ويشعر بالاطمئنان، بعدها تتمدد مرهقة في انتظار الولادة التالية.
كنا فرحين، منفعلين، نتابع معجزات الولادة باندهاش، ننقل الجراء الصغيرة إلى جانب الكنبة التي كانت ليلي تلد عليها، ونرعاهم حتى لا يسقطوا، وندلل ”ليلي” ونشجعها، ونسقيها، ونخمن الرقم الذي سينتهي إليه اليوم : ستة، ثمانية، تسعة .. لم نتخيل أننا سنتابع 11 ولادة. في الوقت نفسه، رحنا نغدق بعض الحنان على كلب الدار الآخر ”بوتشر” هذا الصغير من نوع جريفون) الذي تراوحت مشاعره بين الانفعال، والارتباك، ومحاولة الاستكشاف، حتى انتهى به الأمر مختبئا في أحد الأركان، غير قادر على فهم ما يحدث، أو تخيل حياته وسط هذا العدد من المخلوقات.
لم تنقطع الاتصالات من “أبو ظبي”، هاشم منفعل، يسأل كل ساعة عن الأحوال، يشعر بالحزن لغيابه في تلك اللحظة عن ”ليلي”، هذا الكائن الذي يشعر تجاهه بعاطفة جارفة.ونظل نحن نتراهن على أن “هاشم” سيقطع رحلته على الفور، وربما يستقل أول طائرة، يترك معرض الكتاب بما فيه، ويأتي ليرى ”صغاره”.

12 كلبا في دار نشر؟ أمر غريب؟
ليس غريبا على ”ميريت”، فمنذ تأسيسها لم تكتف ميريت بدورها كدار للنشر، بل صارت مركزا للنشاط السياسي، منتدى ثقافي، ملتقى للأصدقاء، مكانا للونس، وبيتا لعائلة لا يستطيع أحد حصر أفرادها.
أسس محمد هاشم دار ”ميريت”، المسماة على اسم ”ميريت أمون” ابنة رمسيس الثاني، عام 1998، بمبادرة منه، ودعم من جانب عدد من المثقفين الذين يعتبرهم ”رعاة للدار”، على رأسهم الناقد الراحل ابراهيم منصور. ومنذ تأسيسها انشغلت بنشر الكتب الفكرية، والأعمال السياسية المناهضة لنظام مبارك، قبل أن تشق طريقها في “الأدب الجديد” لتصبح المقصد الأول لكتاب القصة والرواية والشعر الشباب.
ومع انطلاق حركة كفاية أواخر عام 2004، أصبحت ميريت نقطة انطلاق للمظاهرات محدودة العدد للحركة، خاصة بعد تأسيس حركة “أدباء وفنانين من أجل التغيير” المرتبطة بكفاية. كان الأدباء والفنانون- الكبار والصغار- يجتمعون في ميريت، يجهزون اللافتات والصور، ثم يتحركون منها إلى مقار المظاهرات، في التحرير أو طلعت حرب.
ومع انطلاق ثورة يناير، وجدت ”ميريت” نفسها في قلب الأحداث، لقربها الشديد من ميدان التحرير، بل كانت في “خطوط التماس” أثناء موقعة الجمل، التي هاجم بعض البلطجية فيها مقر الدار بالحجارة، لكن ”ربنا ستر”.
وأثناء اعتصام التحرير، مر بميريت المئات من مريدي الميدان، بعضهم من أصدقاء الدار، وأغلبهم لا يعرفون عنها سوى إنها أحد المقرات الآمنة، التي تسمح لهم بتناول مشروب ساخن أو ساندويتش، أو استقطاع ساعة من النوم. بعد منتصف الليل، كنت تأتي إلى الدار، فتجد هاشم يدور بين أناس لا يعرفهم، يحكم الغطاء حولهم وهم نائمون لحمايتهم من البرد القارص، قبل أن يرجع إلى مكتبه ليغفو جالسا لبضع دقائق.
في ذلك الوقت لم تكن هواية هاشم في تربية الكلاب قد ظهرت بعد، لكنها سرعان ما ستظهر، وسرعان ما سيصبح ”بوتشر” و”لِيلي” من معالم الدار. الذكر اللعوب المشاغب الغيور، والأنثى الحزينة الطيبة.
مات أحد الجراء بعد أيام من ولادته، لكن البقية بصحة جيدة، خاصة مع عودة هاشم ورعايته الفائقة لهم. أصدقاء الدار وروادها منبهرون بالحدث الغريب، حريصون على إلقاء نظرة على هذه المخلوقات الصغيرة بعيونها المغلقة، وهي نائمة، أو وهي ”تصوصو” مثل العصافير لتنادي على أمها التي تحاول الاستراحة قليلا تحت أقدام سيدها.
يقترب ”بوتشر” أحيانا من الجراء وهي ”تصوصو”، يدفعه الفضول، أو ربما القلق من مصيره وسط هذا الزحام. تهدده “لِيلي” بنظراتها فيبتعد. تتغافل ”لِيلي” أحيانا عن نداءات صغارها، مشفقة على نفسها من المهمة العسيرة: أن تتمدد في هذا الحر لترضع عشرة جراء نهمين.
مازال الصغار محصورين داخل إحدى حجرات الغرفة، لا يبرحون مكانهم، وإن كان الفضول يدفعهم من وقت لآخر إلى محاولة استكشاف ما الذي يدور خارج عالمهم الضيق. ومؤخرا فتح أحدهم عينيه، ومنحه هاشم اسما.

المشكلة “نظريا” بسيطة لكن..!
الآن، قد تدخل إلى الدار فلا ترى غير الكلبين المعروفين، اللذين اعتدت على وجودهما، لكن بعد قليل ستكبر الجراء العشرة وتبدأ المشكلة :من سيتبناهم بعد فطامهم عند بلوغهم شهر ونصف، أو شهرين؟ من الذين سيثق بهم هاشم ويمنحهم فرصة تربية أطفاله؟
تبدو المشكلة- نظريا- بسيطة، فعدد الأصدقاء الذين تقدموا بطلبات التبني أكبر من عدد الجراء. لكنك تنظر في عيني هاشم وهو يرعها فتدرك أن المسألة ليست بسيطة.
تسأله فيقول لك :ربما أحتفظ بواحد، أو اثنين على الأكثر.
لكنه سرعان ما يشعل سيجارته ويسرح سرحته المعتادة، فتستطيع أن ترى أحلام اليقظة التي تدور في عقله: ربما ثلاثة، أو أربعة، ربما لو انتقلنا إلى مكان جديد بحديقة أستطيع الاحتفاظ بخمسة أو ستة.. أو يا سلام لو استطعت الاحتفاظ بهم جميعا!
من أرشيف منطقتي وسط البلد، العدد الرابع والعشرين، يونيو 2015