التقاريرحوارات صحفية

حينما تسببت إسرائيل في أزمة زجاج بوسط البلد!

ثمة سببين اختار على أساسهما مجيب الرحمن أبو عامر، منطقة القاهرة الخديوية المعروفة بوسط البلد موضوعا لرسالة الدكتوراه التي يعدها بجامعة غرونوبل بفرنسا، وموضوع بحث الدكتوراة هو “التطور المجتمعي والسياسي لوسط مدينة القاهرة 1952-2015”. السبب الأول شخصي، والثاني أكاديمي يتعلق بالدور الكبير الذي لعبته وسط البلد تاريخيا، ونتعرف عليهما في هذا الحوار معه.

مجيب الرحمن عامر مواليد عام 1986 ويعمل مهندس معماري وباحث ، تخرج في كلية الهندسة جامعة القاهرة 2008 ، ثم حصل على درجة الماجستير عام 2014 من قسم الهندسة المعمارية القاهرة عن موضوع “العمارة والقيم المجتمعية في ظل التحولات السياسية، مع ذكر خاص لعمارة وعمران القاهرة من ثورة يوليه لما بعد ثورة يناير”، عمل بعدد من المكاتب الهندسية الاستشارية وقام بالتدريس في جامعة القاهرة كطالب باحث، وكمعيد في عدة جامعات خاصة، ثم مدرس مساعد في جامعة مصر الدولية . وتعد جامعة غرونوبل- ألب الذي يعد بها رسالة الدكتوراة واحدة من أقدم الجامعات الفرنسية، إذ يرجع تاريخها للقرن الرابع عشر وقد تخرج فيها عالم المصريات الفرنسي جان فرنسوا شامبليون وعمل أستاذًا فيها.

مجيب الرحمن أبو عامر - تصوير: عبد الرحمن محمد
مجيب الرحمن أبو عامر – تصوير: عبد الرحمن محمد

في البداية.. لماذا اخترت منطقة وسط البلد موضوعا للدراسة؟

يأتي اختياري لمنطقة وسط البلد للبحث نابعًا من أهميتها باعتبارها قلب العاصمة ومركز الخدمات الرئيسي central business District  حتى لو تعددت المراكز حاليًا في القاهرة، لكن لا يمكن إغفال منطقة وسط البلد كأصل كل المراكز الخدمية التي تلتها. وهي تعبر في الأصل عن حالة سياسية ومجتمعية مختلفة بدأت بطموح والي مصر إسماعيل باشا في تأسيس حاضرة على النسق الأوروبي جنبًا إلى جنب مع المدينة القديمة (القاهرة الاسلامية أو قاهرة القرون الوسطى)، وهو ما أدى لظواهر مجتمعية وعمرانية مختلفة أضافت وجه جديد للقاهرة غير التي عرفها الرحالة والمستشرقون منذ تأسيس القاهرة في القرن العاشر. أضيف سبب شخصي لاختياري وسط البلد هو أنني من سكان وسط البلد (تحديدًا شارع شامبليون) فعن طريق المسافة اليومية المعتادة من بيتي بشارع شامبليون إلى مدرسة الفرير بباب اللوق، عرفت الكثير عن وسط البلد وبعد حصولي على درجة الماجستير وخلال مرحلة البحث عن موضوع الدكتوراة وجدت وسط البلد نطاق عمراني ثري، دائم التطور وجدير بالدراسة على المستوى العمراني (وهو تخصصي) ولكن في ضوء التحولات السياسية والمجتمعية منذ النصف الثاني من القرن العشرين.

ألا ترى أن الفترة موضوع الدراسة، طويلة جدا نتحدث هنا عن أكثر من ستة عقود؟

فترة الدراسة بالفعل طويلة بالفعل، ذلك لأنها تبدأ بثورة يوليو 1952 حيث بدأ تحول سياسي حقيقي تمثل في تغيير نمط ونظام الحكم، فضلا عن اختلاف النخبة الحاكمة وتحول مجتمعي تمثل في النخبة الجديدة من صغار الضباط و الموظفين وتأثرت المنطقة – منطقة الدراسة- بكل من التحولين، فاستوعبت القادمين وتم استبدالهم بالنخبة القديمة –طبقة الأرستقراط والأجانب- وسط تغييرات سريعة الإيقاع على كونها أيدلوجية، كالتحول الرسمي للنهج الاشتراكي خلال فترة الستينات، ثم التحول عنه للنهج الرأسمالي في السبعينات، الذي جاء محملًا برجاله ونخبته وتأثيراته على العمران لمدى يزيد عن الأربعين عامًا، حتى خلال الفترات الانتقالية من بعد ثورة يناير استمرت التأثيرات على منطقة وسط البلد، فلم نر أن المنطقة قد انفصلت يومًا عن الواقع السياسي والمجتمعي. ورغم أن نطاق الدراسة زمنيا يزيد عن الستة عقود لكن كل عقد كان يحمل للمنطقة تغييرًا أو تحولًا نظرًا لكونها “واسطة العقد” فانعكست عليها كل التحولات حتى تراكمت في الوجدان وعلى الجدران وأدى هذا التراكم إلى وسط البلد التي نراها حاليًا.

وسط البلد كانت تغرق في الظلام فترة الهزيمة.. واكتسى كل شيء فيها باللون الأزرق

 ما هي أبرز التأثيرات الاجتماعية والسياسية التي رصدتها في موضوع البحث؟ وما أكثر ما تأثر في المنطقة بهذه التأثيرات.. النسيج الاجتماعي، المباني، الفضاء العام؟

التأثرات السياسية والمجتمعية كثيرة ويمكن تقسيمها زمنيًا:

فترة الخمسينات حيث بداية التحول، وفي أولها احتفظت وسط البلد بخصائصها الكوزوبوليتانية حتى حرب السويس، وابتداء فكرة التأميم وخلالها بدأ إحلال النخبة الموجودة –طبقة الأرستقراط والأجانب- بطبقة صغار الموظفين والضباط، ثم الدور الذي أراده عبد الناصر لمصر أن تكون قلب الثلاث دوائر العربية والأفريقية والإسلامية، وهو الدور الأيديولوجي الذي رسمه عبد الناصر بنفسه –سواء حرره هو أو كان محمد حسنين هيكل هو المحرر الحقيقي حسبما يقال-  في كتابه فلسفة الثورة.

وخلال النصف الثاني من الخمسينات نزح آلاف العمال والفلاحين إلى القاهرة ومن ثم إلى وسط البلد (حتى أن ميدان المحطة بوسط البلد أصبح معروفًا باسم محطة مصر، وكأن القاهرة وخصوصًا وسط البلد أصبحت مصر).

وخلال هذه الأثناء جرت تغييرات عمرانية على سبيل المثال إحلال منطقة الثكنات –ثكنات الجيش الانجليزي المعروفة لدى العامة بالثكنات الحمراء لطلائها باللون الأحمر وهو لون الأساس في العلم البريطاني)، بميدان التحرير (ميدان الإسماعيلية) بمجموعة من المباني (النيل هيلتون- جامعة الدول العربية وجامع عمر مكرم ومصممه إيطالي بالمناسبة) كذلك مشروع كورنيش النيل كذلك جرى تغيير اسماء شوارعها “الملكية” كشارع وميدان سليمان باشا الذي أصبح شارع طلعت حرب، وميدان إبراهيم باشا أصبح ميدان الأوبرا وشارع فؤاد الأول أصبح شارع 26 يوليه (تاريخ خروج –لاحظ المفارقة- فاروق بن فؤاد من مصر) وميدان توفيق، أصبح ميدان عرابي (مفارقة أخرى) وغير ذلك من الأمثلة.

ميدان الأوبرا سنة 1961
ميدان الأوبرا سنة 1961

تغيرت خلالها معالم وسط المدينة وبدت كأنها الوعاء الذي يصب فيه الاستخدامات، وبدأت المنطقة خلال فترة الستينات -لاسيما بعد حركة التأميمات الواسعة واعتماد “الميثاق” كدستور يتبنى النهج الاشتراكي- تستوعب النازحين الذي سكنوا الأسطح والبدرومات فازدادت بالتالي الكثافة السكانية فيما لم تكن وسط المدينة مستعدة لهذا الهجوم الهائل ومع سلبيات الفكرة المركزية واعتماد الفئة الحاكمة على أهل الثقة لا الخبرة في إدارة المنطقة (رئاسة الأحياء والهيئات واللجان كانت تُسند لضباط الجيش وطبقة البيروقراط) بدأت تظهر على المستوى المعماري تشوهات الواجهات ومظاهر الإهمال حتى غابت الصيانة مع غياب الوعي بها، وتأثر الانتماء للمكان فحدثت على سبيل المثال أزمة الصرف الصحي الكبرى حيث غطت مياه المجاري شوارع وميادين وسط البلد الرئيسية، ورأينا ذلك في فيلم “ثرثرة فوق النيل” كما قرأناه في “تلك الرائحة” لصنع الله إبراهيم، وهما بالمناسبة عملان فنيان عبرا عن مرحلة سقوط الحلم الناصري والتفكك الذي اعترى جسم المجتمع مثلما اعترى النسيج العمراني في النصف الثاني من الستينات.

فترة الهزيمة حتى نصر أكتوبر كانت وسط البلد تغرق في الظلام كما وصفها رسام الكاريكتير الفرنسي جولو، واكتسى كل شيء باللون الأزرق الذي تم طلاء النوافذ به حتى المقاهي الشهيرة ذات الواجهات الزجاجية في وسط المدينة. وبمناسبة الزجاج يقال أن حدثت في وسط البلد أزمة في الزجاج الذي ارتفعت أسعاره بسبب تحطم نوافذ أغلب العقارات على إثر غارة إسرائيلية مرت خلالها طيارة على ارتفاع منخفض تحطمت على أساسها أغلب النوافذ بسبب فرق الضغط.. وهي حادثة يرويها بعض سكان المنطقة الذين عاصروا هذه المرحلة!

جانب من جنازة أم كلثوم بميدان التحرير
جانب من جنازة أم كلثوم بميدان التحرير

مرحلة السبعينات وما بعد الحرب، حيث شهدت المنطقة الآثار السريعة الناجمة عن قرارات الانفتاح والتحول نحو السوق الحر، وحدث انقلاب في الهرم الاجتماعي وسادت قيم جديدة في المجتمع، وأصبح المجتمع ككل مجتمعًا استهلاكيًا بامتياز، وعليه فقد جعل أصحاب المحال التجارية التي أخذت في التزايد منذ ذلك العهد على عاتقها المستهلك (المواطن) وبسبب ضعف الانتماء وانعدام الوعي بقيمة العمل المعماري وعراقة المكان فقد انكب كثيرون على إظهار واجهات المحال التجارية على حساب المباني، وسعى آخرون لشراء المباني القديمة وهدمها لتظهر مكانها أبراج أو مولات وربما أصبحت ساحات لانتظار السيارات (مثل فيلا هدى شعراوي بميدان التحرير، وقصر البستان بشارع عبد السلام عارف)، أضف لذلك أن السبعينات شهدت ظهور موجة من الأغاني والأعمال الفنية ردئية المستوى لا سيما بعد غياب كبار الفنانين عن الساحة (وفاة أم كلثوم 1975– فريد الأطرش 1974– عبد الحليم حافظ 1977) مع هجرات الطبقة الدنيا إلى ممالك النفط والعودة بمقدرة شرائية أسهمت في الخلل المجتمعي لمنطقة وسط البلد وللقاهرة بشكل عام، كذلك العودة بأفكار سلفية متشددة واكبت خروج التيار الاسلامي من السجون لتشترك في معادلة سياسية وضعها السادات بنفسه ليضرب التيارات الناصرية واليسارية وانتهت المعادلة بتراجيديا المنصة 1981.

زلزال 92 أشعر النخبة السياسية والثقافية بقيمة التراث المعماري.. واهتمام الدولة بالبنية التحتية ساهم في تدهور الوضع!

يبدو أن هذه الفترات كانت مرحلة التحولات الجذرية في وسط البلد، فهل كانت التحولات التالية عليها نتاج المراحل السابقة؟

كل ما سبق من عوامل أسهم في خلخلة النسيج المجتمعي والعمراني للمنطقة فأصبح خط السماء بتردداته المتناقضة بين المبنى المتوسط والمنخفض والبرج الشاهق شبيهًا برسم قلب يعتريه الإجهاد والمرض!على أن فترة الثمانينات والتسعينات واهتمام الدولة بالبنية التحتية ساهم في زيادة تدهور الوضع في وسط المدينة والحرب التي خاضتها الحكومة ضد الإرهاب وشهدت وسط البلد عدة حوادث لحرائق نوادي الفيديو أو البارات – وهو ماأدى لتوقف بعض هذه الأنشطة- مع حدوث أعمال عنف كان أبرزها اغتيال رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب الأسبق.

أما فترة التسعينات تميزت في بدايتها بزلزال أكتوبر 1992 التي أشعرت النخبة السياسية والثقافية بأهمية التراث المعماري فظهرت بعض القوانين التي تجرم هدم المباني الأثرية، وتلتها فترة الألفينات فكانت المقدمة التمهيدية لمرحلة الثورة، إذ بدأت خلالها المبادرات التي أخذت على عاتقها قيمة التراث المعماري والعمراني للمنطقة وظهرت نخبة جديدة من الشباب المثقف وعرفنا من خلالهم منتديات ومقاهي للمثقفين مرة أخرى مثل التكعيبة وجاليرهات الفن مثل تاون هاوس وظهرت الهيئة العامة للتنسيق الحضاري وكتاب القاهرة الخديوية للدكتورة سهير حواس الذي وثق عمران وسط المدينة، فيما كان المشهد السياسي عاصفًا مع ظهور الحركات الجديدة المناهضة مثل حركة كفاية و 6 أبريل والصورة الجديدة للمعارضة التي تبلورت في 25 يناير 2011 حيث حدثت المواجهة الحتمية بين الشعب والنظام .

وقبيل الثورة كان الوضع في وسط البلد يبدو هادئًا إلا أنه في الواقع كان يضطرب كأنه الرماد الذي يخفي “وميض النار” على رأي الشاعر القديم .

وتميزت فترة مابعد الثورة كشأن كل الثورات بفترة عشوائية فمع جهود المثقفين للحفاظ على القيمة حدث أن احتل النازحون مرة اخرى وسط البلد على هيئة باعة جائلين اختفت وراء بضائعهم و”تعاليقهم” واجهات المباني القديمة واختفت زخارفها وراء رسوم الجرافيتي والاسبراي الأسود  وبدا الأمر كأنها فوضى حتى اضطر بعض السكان إلى مغادرة وسط البلد التي بدت غير آمنة بسبب الاضطرابات والاعتصامات.

مجيب الرحمن يشرح بعض النقاط أثناء الحوار - تصوير: أحمد جمال
مجيب الرحمن يشرح بعض النقاط أثناء الحوار – تصوير: أحمد جمال

إذا ما هي المناهج والأدوات التي اتبعتها في عملية رصد هذه التحولات؟

موضوع الدراسة يحاول تقديم رؤية تعددية للمنطقة ولكن رغم ذلك فالمنهجية تعتمد على كم من القراءات السياسية والاجتماعية والأدبية والفنية والفلسفية أيضا لأن منهج القراءة التعددية lecture multiple هو مفهوم سيمولوجي طرحه رولاند بارت R.Barthe  في كتابه المغامرة السيمولوجية، ولأني أحاول الوصول إلى قراءة معمارية عن طريق هذه الكتابات فاعتمدت معماريا على الخرائط والصور والكتب التي قدمت وصف لوسط البلد، مثل مؤلفات أندريه ريموند عن القاهرة ومرسيدس فوليه التي التقيت بها في باريس ودار بيننا حوار مثمر عن موضوع البحث وكتاب الدكتورة جليلة القاضي المهم “وسط البلد – مركز في حالة حراك ” بالإضافة إلى اجراء لقاءات مسجلة مع معماريين اهتموا بقضية وسط البلد كعمر نجاتي الذي عن طريقه عرفت العديد من المجهودات والمبادرات التي تخص منطقة وسط البلد. مع ذلك أقوم باجراء لقاءات مع صحفيين أو مشتغلين بالأدب وكذا مهتمين بالمجال الفني مع اطلاعي على الروايات والأفلام السينمائية التي ظهرت بها وسط البلد. باختصار أعتمد على أدوات المعماري فيما يخص مجال العمران: الخرائط والصور والكتابات، واعتمد على أدوات المؤرخ فيما يخص مجالي الأدب والسياسة والسينما: اللقاءات المسجلة وتتبع الحركة الأدبية والفنية في ضوء التغيرات السياسية.

الأدب قدم رصدا لوسط البلد أفضل من السينما.. والصحافة وثقت لتطور المنطقة جيدا

 

بوستر فيلم العتبة الخضرا
بوستر فيلم العتبة الخضرا

أيها رصد تاريخ وسط البلد في الفترة موضوع الدراسة بدقة أكثر.. الأدب، السينما، الصحافة؟

أعتقد الأدب قدم رصدًا لوسط البلد أفضل من السينما التي تحكمها ظروف الانتاج والتصوير، حتى فيلم “بنات وسط البلد لمحمد خان” -وهو معماري بالمناسبة- لم نر فيها سوى مشاهد قليلة ليلية لميدان طلعت حرب (قبيل الفجر- لاحظ ظرف التصوير) ومقهى البستان، ولكن أفلام مثل “حياة أو موت” مثلا و”العتبة الخضراء” قدما صورة حية لوسط البلد في نهاية الخمسينات مثلما رأينا من خلالهما قيم الثورة الوليدة (إعلاء قيمة العمل وانتصار الخير على الشر- تكاتف المجتمع وراء الطفلة لإنقاذ مريض أو وراء النازح المخدوع للقبض على المحتال إلخ) حتى أن بعض الأفلام عن القاهرة لم يتم تصويرها في القاهرة مثل الفيلم الفرنسي le caire confidential   الذي تم تصويره في كزابلانكا بالمغرب بسبب اعتراض السلطات على تصويره مصر!

تلك الرائحة - صنع الله إبراهيم
تلك الرائحة – صنع الله إبراهيم

يقال أن فيلم آخر أيام المدينة لتامر السعيد من الأفلام الجيدة وأتطلع إلى لقاء صانعه تامر السعيد بعد عودتي لمصر لإجراء حوار معه.

الأديب يستطيع أن يكتب حتى من السجن وأن يتجاوز الرقيب كما الحال مع صنع الله ابراهيم الذي رصد حالة الاضطراب وكساد مابعد النكسة وابراهيم، أصلان الذي رصد مظاهرات الكرامة 1972، الصحافة قد تكون قدمت عن طريق المقالات والتحقيقات الصحفية و كذا الاعلانات صورة عن وسط البلد يسهل تعقب تطورها، مثل الحال في الصحافة المعمارية ومجلة العمارة وعالم البناء اللتين توقفتا عن الصدور وقدم محمد الشاهد وشيماء عاشور عددًا متميزًا عن وسط البلد سنة 2015 في مجلة مشاهد القاهرة وكان لي شرف المشاركة في تحريره.

كيف ترى وسط البلد بعد ثورة يناير؟ 

فترة مابعد ثورة يناير يمكن تقسيمها إلى مرحلتين: الفترة الانتقالية حتى نهاية حكم الإخوان وفترة مابعد الإخوان، الفترة الأولى اتسمت بسمة العشوائية وانفلات الأمور على الحقيقة، حيث وبالرغم من البداية المبشرة من شباب الثورة ومبادرات كنس الشوارع وطلاء الأرصفة، لكن سرعان ما احتلت المنطقة جحافل الباعة الجائلين وطبقة من المستهلكين أساءت لقيم المكان، كما أسهمت الاضطرابات والاعتصامات في زيادة ضبابية المشهد، مع ذلك نشطت الحركة الثقافية والفنية ووجدنا عروضا فنيا ومبادرات منها مجلة “منطقتي” وتطوير ممر “كوداك”.

عن حكم الإخوان وأذكر الزحام الشديد على المقاهي ليلة كل سبت لمشاهدة باسم يوسف كأنها مباريات كأس العالم ولايرجع الأمر في رأيي لنجاح باسم يوسف بقدر ماكان رفضًا من المجتمع لأيدلوجية الإخوان في الحكم وهو ما وحد ضدها كل القوى السياسية فأدى لمظاهرات 30 يونيه وتداعياتها يوم 3 يوليه حيث ابتدأت الفترة الانتقالية الثانية ومنها إلى النظام الحالي.

عن الفترة الثانية يمكن القول إنها كانت على النقيض من الفترة الأولى فمن الفوضى العارمة للنظام الصارم ومن الزخم الثقافي والفني للفكر التعبوي الأحادي ومن المشاهد التي رأيتها بعيني أغنية “تسلم الأيادي” تصدح بها مكبرات الصوت صادرة من المقاهي و حول البضائع التي “يسرح” بها الباعة الجائلون في وسط البلد، وفيما بعد وخلال شهور قلائل كانت هذه المكبرات ومقاعد المقاهي البضائع وأصحابها هدفًا لبلدوزرات البلدية معلنة خروج الباعة الجائلين من وسط البلد نهائيًا.

شارع 26 يوليو اثناء تواجد الباعة الجائلين - سبتمبر 2013 - تصوير- أحمد منتصر
شارع 26 يوليو اثناء تواجد الباعة الجائلين – سبتمبر 2013 – تصوير- أحمد منتصر

في السنوات القليلة الماضية تخضع وسط البلد لعملية تطوير كما تصفها الحكومة.. كيف ترى نلك الخطة، وما الذي يجب أن تبدأ به عملية التطوير هذه؟

المبادرة التي تتبناها الدولة اسم على مسمى تمامًا “إعادة الوجه الحضاري” فهي تهتم بالشكل فقط مثلما شاهدنا طلاء الواجهات – وبعضها جاء قبيحًا وغير ملائم بالمناسبة- وتنسى كالعادة المضمون مشكلات الصيانة والمشاركة السكانية و العمل على تنمية الوعي بقيمة المكان. شأنها شأن المبادرات أحادية الجانب التي تبناها النظام خلال الستينات. وأغلب ظني أن هدفها سياسي بحت هدفه منح إحساس التغيير للمواطن.

على أن ذلك لا يمنع من وجود بعض المبادرات الفردية التي تعمل على المدى الطويل والتي أجد نفسي ممتدحًا لها كمبادرات شركة “الإسماعيلية” ومجموعة “كلستر” ومجلة “منطقتي” ، وأجد نفسي متفائلًا لوجود هذه المبادرات وراغبًا بالمشاركة لأن خلف هذه المبادرات من وجهة نظري تقف الفئة الحقيقية التي يمكن أن نسميها جيل الثورة وعن طريقهم نجد أن الثورات لا تموت.

يحيى وجدي رئيس تحرير منطقتي خلال حواره مع الدكتور مجيب الرحمن عامر - تصوير - عبد الرحمن محمد
يحيى وجدي رئيس تحرير منطقتي خلال حواره مع الدكتور مجيب الرحمن عامر – تصوير – عبد الرحمن محمد

ما هي الإمكانيات التي تمتلكها وسط البلد من وجهة نظرك، وتساعد على استثمار المكان في الأنشطة الثقافية؟

وسط البلد إذا تكلمنا عن امكانياتها فهي الوعاء العمراني ربما الوحيد الذي يجمع الأضداد من التيارات السياسية والأطياف الاجتماعية ثم يصهرها، لتخرج لنا نتاجًا متجانسًا، وربما لا أكون مبالغًا لو قلت إن منطقة وسط البلد لو روعي فيها ضرورة الاختلاف والتجانس قد تصبح بالفعل القاطرة التقدمية التي تخرج منها الأفكار والمبادرات وقيادة عملية إعادة تشكيل الوعي التي نحتاجها خلال الفترة القادمة، وأعتقد أنه لدينا الكوادر من المعماريين والمخططين والمثقفين ورجال الإدارة والفنانين القادرين على إدراك الموقف الحالي ومن ثم تحديد البوصلة للخروج من أزمة المرحلة التي نعيشها. كذلك تصبح وسط البلد لتلعب دورًا أساسيًا  كما كانت ولكن بمعطيات حديثة تمامًا وليس فقط على سبيل النوستالجيا أو البكاء على الأطلال .

الوسوم
إغلاق
إغلاق