شوارعنا

«رمسيس» منتصف الليل.. شارع آخر!

على الرصيف وضع بائع الفول رغيفا للمتشرد، فوق الرغيف كبشة فول وفوقها رغيف آخر، قرفص المتشرد ذاهلا دون أن يتلفت وبدأ يأكل، قال رجل عابر للبائع: حرام كده الأكل على الأرض. رد البائع: سيبه في حاله. وعاد يقف جوار عربته الصغيرة بالقرب من ناصية كلوت بك، وسرعان ما ذابوا جميعا في زحام ميدان رمسيس، في المسافة المزدحمة بالباعة والميكروباصات والعابرين بين مسجد الفتح الهائل الحجم وناصيتي شارعي الجمهورية وكلوت بك، وعلى بعد خطوات من مدخل الفجالة، بأِشباح مكتباتها التي لم تعد تبيع الكتب بل الأدوات الدراسية، وميكروباصات المرج التي لا تبدأ في الوقوف هنا إلا بعد الثانية عشرة مساء، موعد مرور آخر مترو أنفاق من محطة رمسيس (التي كانت محطة مبارك ثم صارت الشهداء)، يمر المترو الأخير فتهلّ الميكروباصات وعمال الليل والساهرون، وحولهم السوق الارتجالي الراسخ الذي ينتعش أكثر بعد أن تظلم محطة المترو ويصير الميدان ملكا خالصا للمواصلات غير الحكومية، حافلات الأجرة بأنواعها والتاكسي والبيجو، حينها يمكن أن تشتري أي شيء من سوق منتصف الليل ذاك، من اكسسوارات الموبايل إلى الروايات البوليسية إلى الأحذية الجلدية أو التي تزعم أنها كذلك، في الميدان الذي يبدو مظلما مهما أضاءوه بسبب اتساعه وتقاطع الجسور في سقفه، يبدو المارة ليلا كأشباح تعبر المساحات الواسعة أو تنام في ما يفترض أنها “حدائق “ خضراء، غير أن الشبح الحقيقي هو للملك الذي لم يعد موجودا، للتمثال الهائل لرمسيس الثاني الذي طالما وقف يحدق في نافورته في قلب الميدان، ترك التمثال اسمه للميدان ورحل قبل 11 سنة إلى المتحف الكبير، وترك فراغا في شكل الميدان وهويته معا، بدون تمثال رمسيس بدا الميدان مثل باب بيت انتزعت من عليه لافتة الاسم.

 

شارع رمسيس - تصوير: صديق البخشونجي
شارع رمسيس – تصوير: صديق البخشونجي

 

الزحام يضيّق المسافات، لكن مهما بلغ زحام ميدان رمسيس فلا يخفي اتساعه المترامي، على مساحة  40 ألف متر مربع تمتد حدود الميدان، أقل بحوالي 5 آلاف متر من مساحة الميدان الأكبر في التحرير، غير أن التحرير مهما ازدحم –بخلاف أيام الثورات- لا يقترب من الزحام الرمسيسي المتنوع، ومن العالم شبه الكامل الممتد من لوكاندات كلوت بك المتهالكة أعلى ميكروباصات العتبة والأزهر، وصولا إلى الناحية الأخرى حيث المدخل المهيب –الذي ازداد مهابة عبد التطوير- لمبنى محطة مصر، وبينهما يمتد كوبري المشاة المرتفع الطويل جدا الذي يعبر الميدان بأكمله، ومن فرط ارتفاعه وطوله يشكو مسؤولو حي الأزبكية من تجاهل المواطنين له (للكوبري لا للحيّ)، ويفضّلون العبور من أسفل، لو تشجعت وصعدت الكوبري، في النهار أو في الليل، ستشعر كأنك في شارع طويل خال، أرضيته لم تعد في حالة جيدة أيضا، على الناحية الأخرى تأتي فتاة وقد أشعلت –ليلا- ضوء كشاف هاتفها الخلوي وأدارته نحو الأرض، لترى الطريق أو ربما لتشجع نفسها، تكاد تنسى بعد قليل أنك فوق كوبري مشاة، ينتهي الكوبري ويهبط بك إلى  الجراج المحدث لمحطة مصر، كأنك فجأة في عالم آخر، إضاءة قوية كاشفة، مساحات واسعة نظيفة محاطة بأسوار تفصل المحطة عن الميدان كأنهما بلدان منفصلان، والمسافرون يعبرون إلى “حدود” المحطة من بوابات قليلة، متجهين إلى المدخل الواسع مرتفع السقف منذ أسس المحطة عباس باشا الأول منتصف القرن التاسع عشر، ثم أنشأ لها الخديوي إسماعيل توأما في الإسكندرية بدلا من محطة القباري، من هنا تنتقل  حرفيا إلى أي مكان (من اسكندرية إلى أسوان) كما يقول المثل الدارج، لكن الانتقال ليس مقصورا على القطارات التي تهدر في الليل والنهار، ما أن تخرج مجددا من ساحة المحطة إلى الميدان حتى تقابلك الميكروباصات مجددا لا تنادي على أحياء القاهرة هذه المرة بل إلى أقصى الأقاصي، من ناحية المحطة تناديك الميكروباصات إلى “اسكندرية صحراوي” ومن ناحية الفجالة تناديك إلى الصعيد و”سوهاج – أسيوط”، تقف هنا أو هناك وتراقب الآلاف المؤلفة تتحرك في الليل بحقائب السفر الصغيرة بين السيارات وأمام المطاعم الصغيرة تقدم الكبدة والكشري والمومبار والفول، وإذا لم تقدر على أي من ذلك فالفرن الشهير على ناصية شارع الجلاء يقدم لك فطائر العجوة الساخنة، الواحدة منها بجنيه واحد لا غير، حتى بعد التعويم.

الوسوم

‫2 تعليقات

  1. تنبيه: Google
  2. تنبيه: Netflix bez VPN
إغلاق
إغلاق