في كلمته التي أعلن بها رفضه جائزة الرواية العربية عام 2003، قال الروائي الكبير صنع الله إبراهيم إن “السفير الأمريكي يحتل حيا بأكمله بينما ينتشر جنوده في العالم العربي”، وربما كان ثمة مبالغة في عبارة “يحتل حيا بأكمله”، وهو حيّ جاردن سيتي العريق، لكن كان يكفي أن تغلق السفارة الأمريكية مدخل جاردن سيتي من ناحية شارع قصر العيني من ناحية التحرير، وأطرافه من ناحية سيمون بوليفار، لتخلق هذا الإيحاء بأنها “تحتل حيا بأكمله”.
وأيا كان المكان الذي تتوجه إليه يوميا حيث تعمل أو تسكن، فإن هذا المكان، ما دمت قاهريا، يتأثر كثيرا بحالة شارع قصر العيني، ليس فقط لما في الشارع من مؤسسات هائلة وضخمة وهامة، يكفي أن منها البرلمان ورئاسة مجلس الوزراء، بل لأن شارع قصر العيني، بوصفه الشريان الوحيد تقريبا الذي يربط جنوب القاهرة بشمالها عبر “وسط البلد”، له تأثير تراكمي يتعداه إلى مناطق تقع بعيدا عنه، إذا توقف شارع قصر العيني ، توقف شارع رمسيس وتجمّد المرور في التحرير وتزاحمت السيارات في الكورنيش، وحين قررت الحكومة أن تضع –في خطوة غير مسبوقة- بوابات لميدان التحرير، لم تضعها سوى في مدخل قصر العيني.
ومهما رأيت من لافتات تضع “الـ” التعريف على الكلمتين هكذا “القصر العيني”، فلتعلم إنها صيغة خاطئة، فهو قصر العيني، نكرة ومعرفة، مضاف ومضاف إليه، لأنه منسوب إلى قصر شهاب الدين العيني أحد زعماء العصر المملوكي، ولهذا فإنك تقول “قصر العيني” كما تقول مثلا “قصر البارون”، ولا تقول “القصر العيني” وإلا صرت كأنك تقول “القصر البارون”، ولا يشذ عن ذاك إلا ألقاب المماليك التي تصف البشر وليس الحجر، كأن تقول “الظاهر بيبرس” الذي بني في عهده قصر العيني على أرض كانت هدية من الأمير المملوكي سليمان المهراني (موقع هيئة الاستعلامات)، وأيا كان فقد استولى بكوات المماليك على القصر وتحول إلى حبس حربي، ثم حوله الفرنسيون حين غزوا مصر إلى مستشفى عسكري، إلا أنه لم يصبح هذا المعلم الطبي الشهير إلا حين كلف محمد علي باشا الفرنسي كلوت بك بتأسيس مدرسة طبية فيه خلال الثلث الأول للقرن التاسع عشر، أسس كلوت بك المدرسة على احدث الأسس الطبية آنذاك، وككل ما أسسته الأسرة العلوية من الضخامة والجودة وعمل حساب للمستقبل، ظل قصر العيني يعمل إلى يومنا هذا كأكبر مستشفى في المنطقة وأهم كلية طب، ومن المفارقات أن فرنسا عادت إليه مرة أخرى عبر القسم الاستثماري الذي يستقبل الداخلين شارع قصر العيني من بدايته في “فم الخليج”.
وفضلا عن ما يضمه شارع قصر العيني من بنوك ومطاعم ومقاهي ومعاهد دراسية وسفارات وغيرها من العناصر المدنية، وعناصر سيادية كالبرلمان ومقر رئيس الحكومة، يضم الشارع مسرحين أحدهما حكومي هو مسرح السلام والآخر خاص هو مسرح فيصل ندا، فضلا عن نقابة المهن الطبية والجمعية الجغرافية المصرية والمجمع العلمي، زحام مؤسسي ينفتح على مؤسسات أكثر في الشوارع الموازية في المنيرة وجاردن سيتي، حتى يكاد شارع قصر العيني كأنه يصلح ليكون دولة مستقلة أو كأنه عاصمة للبلاد، وكأن البوابات في نهايته بوابات الحدود.
40 تعليقات