فنون
الفيلم المغربي “صوفيا”.. تشريح القهر
تقدم مريم بن مبارك دراما تشويقية بسرد بسيط وذكي وتحاول تشريح تراتبية القهر في مجتمعاتنا العربية
فتاة لا تخرج من بيتها إلا بالزي التقليدي المغربي. الجلباب الفضفاض يعكس التزامها بالتقاليد والأسرة المحافظة تحكم قبضتها على ابنتها صوفيا. الأمـر يختلف بالنسبة لابنة خالتها والتي تظهر بملابس عصرية في الغذاء العائلي؛ إذ تبدو أمها وزوجها الثاني الفرنسي نقيضين لوالدي صوفيا ذات السادسة عشر ربيعا. الأجـواء واعـدة بنجاح المشروع المرتقب بين الأسرتين.. الخالة الميسورة بأموالها ووالدا صوفيا بجهدهما. قسمة عادلة.
من أمام الحوض في المطبخ تعاني الفتاة الصغيرة آلامـا مبرحة، تلاحظ ابنة خالتها التي تدرس الطب حالتها الصحية وتطلب أن تفحصها.. تكتشف شيئا ببطنها, تسألها متى زارتها آخـر دورة شهرية.. تستنكر صوفيا سؤالها وتسألها بدورها: ما تخصصك الذي تدرسينه؟ أليس طب الأورام؟!!
لكن مـاء الولادة الذي سال على أرضية المطبخ يجعلهما تقرران الخروج من المنزل إسعافا للفتاة، تخبرا العائلة التي لم تزل على طاولة الطعام بأن صوفيا متعبة قليلا لذا ستذهبان للصيدلية.
في المستشفى تحاول طالبة الطب إدخال صوفيا غرفة الولادة لكن ما من أوراق ثبوتية توضح زواجها، أو اسم الأب، تخبرها موظفة الاستقبال أن القانون يحظر عليهم إجراء الولادة دون وجود ما يثبت زواج الصغيرة، تخبرها أن زوجها على سفر وأنهما أسرعتا بالنزول فور نزول الماء، فلم تتذكرا إحضار الأوراق المطلوبة.. وبمساعدة صديق طبيب في المستشفى يتم إجراء الولادة على شرط أن تحضر الأوراق في اليوم التالي وإلا أبلغت إدارة المستشفى الشرطة بوجود حالة ولادة دون زواج رسمي.
يبدأ الفيلم من نقطة الهجوم تلك.. لا وقت لتأسيسٍ أو غرس بذور الحبكة.. إننا بصدد أزمة كبيرة خاصةً أن القانون المغربي يجرم العلاقة خارج مؤسسة الزواج الرسمية ويعتبرها جريمة فساد يعاقب عليها بالسجن للطرفين كما أخبرتنا اللوحة المكتوبة قبل استهلال الفيلم.
تهرب الفتاتان من المستشفى بالمولودة الجديدة فور الولادة, وتطاردهما الأسرة على الهاتف لمعرفة لماذا تأخرتا. تلح ابنة الخالة على صوفيا بسؤالها عن والد الطفلة.. بعد فترة من التمنُّـع تخبرها إنه شابا التقته منذ عام يسكن في درب سلطان الحي الشعبي الأفقر.
تذهبان لمنزله بالرضيعة وتسألان عنه.. غير موجود بالمنزل الذي تطردهما منه أخته.
في طريق العودة تفكر صوفيا بالتخلص من الرضيعة بتركها في الشارع:
- “أريد أن أفيق من هذا الكابوس” تقول صوفيا.
لكن ابنة خالتها تمنعها وتعدها بأنها ستجعل والد الطفلة يعترف بها ولن تدخر جهدا لحل مصيبتها.
تتسارع الأحداث.. والدا صوفيا يعلمان بما حدث. وبعد الإفاقة من الصدمة يذهبان مع الخالة والفتاتين لمنزل الشاب.
تستقبلهما الأم والأخت والأخ الأصغر في المنزل الفقير بانتظار الشاب.. تتواجهان الأسرتان.. عالمان مختلفان: قاع وقمة، أناقة وشعبوية، وداعة الميسورين وتنمُّـر المعوزين.
تسأل أم الشاب: ما الذي يضمن أنه أبو الطفل؟ فيجيبها والد صوفيا: فقط انظري لصوفيا بابنتها.. تسألهم أم الشاب عن الأوضاع المادية لأسرة صوفيا، وكذلك طبيعة عمل وتجارة خالتها. يدخل الشاب المنزل بهيئته المتواضعة وحاله البائس.. تستقدمه أمه وتخبره بما حدث.. ينكر الشاب أنه لمس الفتاة، وأنه قابلها بالفعل منذ عام حين كانت تبكي بعد طردها من العمل فواساها ودعاها إلى كوب شاي.
في قسم الشرطة يدعي الأب أن الشاب اغتصب ابنته وهو ما قد يؤدي إلى سجنه ٥ سنوات على الأقل. في حين تنصح أم الشاب صوفيا بالحفاظ على ابنها وأن كل شيء قابل للإصلاح شرط ألا تستجيب لإدعاء الأب، وأن عليها أن تقول أن كل شيء كان برضاها وتنظر لها نظرة ذات معنى وتحمل الكثير من الوعود. وفي غرفة التحقيق تنكر صوفيا اغتصابها، وتقول أنها أرادت الشاب وأنه لم يجبرها على شيء. تحتجزها الشرطة هي والشاب. وتستميت الأسرة في إخراجها حتى لو وصل الأمر لمحاولة رشوة المحقق بأموال الخالة.
يتم التحقيق مع الشاب، ثم يستدعي المحقق صوفيا ويخبرها بأن الشاب سيتزوجها، ويأمره المحقق بأن يعتذر لصوفيا والفتاة غير مصدقة باعتراف الشاب بالطفلة. تدمع عين الشاب وهو يقول لها في انكسار وبإيعاز من المحقق: سامحيني.
تخرج الأسرتان من المخفر.. صوفيا في سيارة خالتها والشاب مع أمه في الحافلة العامة على نفس الطريق.
في المنزل يتم ترتيب الأوضاع. سيتم إخفاء الطفلة في منزل خادمة الخالة لفترة ما. وسيقام زفافا كبيرا لصوفيا ليعلم الجميع أنهما تزوجا شرعيا ورسمياً. وسيوقع والد صوفيا عقد المشروع الجديد مع زوج الخالة الفرنسي.. قسمة عادلة وإنفراجة مرتقبة.
في مكتب السجل المدني تتزوج صوفيا من الشاب، وتعده بعد إتمام إجراءات الزواج أنها ستكون زوجة مخلصة وأن الخالة وزوجها النافذ سيوفران له فرصة عمل تكفل له العيش الكريم بدلا من تبطّله وعوزه، يقول لها أنه يكرهها ولن يستطيع أن يحب أبدا فتاة مثلها.
أثناء إعدادات الزفاف تخبر صوفيا ابنة خالتها الطبيبة أن والد الطفلة هو زوج خالتها الفرنسي وأن الشاب لم يمسسها قط. وأنه قبل الزواج منها بعد تهديد المحقق الذي تعاطف معها وربما نجحت خالتها في رشوته، فنفهم لما دمعت عين الشاب، ولماذا بصق على صوفيا بعد إتمام إجراءات الزواج المدني.
تصعق الطبيبة من هول الصدمة وتخبر أمها وخالتها والدة صوفيا بما حدث. وفي حين تبحث الطبيبة عن حل للأزمة تتواطئ صوفيا وخالتها وأمها على ألا يخبرن والد صوفيا بالحقيقة، ويقررن أن زفاف صوفيا الوشيك هو الحل الأمثل للجميع، وحتى لا يفسد المشروع المرتقب بين الأسرتين.
ندرك حينئذ أن الفتاة التي بدا لنا أنها ضحية قد أغوت زوج الخالة حتى أنجبت، وتزوجت من شاب يعجبها سيؤمن له زوج خالتها الفرنسي عملا ملائما، وأسست لنفسها أسرة وبيتا أعلى من مستوى أبويها، وضمنت إعالة مادية لها من قِـبل خالتها الثرية مدى الحياة شراء لصمتها.
تدرك الطبيبة أي ورطة ورطت بها الشاب باستماتتها لزواجه من صوفيا، وتذهب إليه يوم زفافه بمكان عمله الجديد تعطي له مدخراتها التي خصصتها لرحلتها الصيفية إسهاما منها في مصاريف الزفاف ولاحتياجات الطفلة. يخبرها أنه لم يمارس الرذيلة في عمره قـط.. لكنه سيفعلها الليلة مع عاهرة من الدرجة الأولى.. يأخذ الأوراق النقدية ويكمل عمله.
في الزفاف البالغ الزخرف يُـحمل العروسين على هودج بـرجال شِـداد.. العروس المتباهية تحاول أمساك يد زوجها فيسحبها من يدها وعيون الضيوف تتطلع بفرح للزوجين السعيدين.
في فيلمها الروائي الطويل الأول تقدم مريم بن مبارك دراما تشويقية بسرد بسيط وذكي، وتحاول تشريح تراتبية القهر في مجتمعاتنا العربية، ولا تخضع للتنميط سواء للنوع الفيلمي بتقديم فيلم تشويق بمطاردات بدنية، ولكنه فيلم إثارة عقلية بالأساس، وكذلك على مستوى المضمون؛ فلم تبتذل قضايا المرأة بمعالجة مكررة وبكائية متداولة. والفيلم نسوي بإمتياز مادام ينتصر للهامش حتى ولو كان رجلا. وهي من المرات النادرة التي نرى فيه الرجل ضحية امرأة، بل مجموعة نساء تواطئن عليه لإرغامه على الزواج، فعمد الفيلم إلى تفكيك آليات القهر وصناعته في مجتمعاتنا، فكانت قضيته الأولى هي العدل والمساواة بطرحه أسئلة ذكية حول الصراع الطبقي بالمملكة المغربية، وما يصدق عليها يصدق على غيرها من مجتمعاتنا العربية، مؤكدا أنه لن تتحرر المرأة إلا بتحرر الرجل والمرأة معا.
حاز الفيلم على جائزة أفضل سيناريو في قسم نظرة ما في مهرجان كان 2018. وعرض ضمن مسابقة أسبوع النقاد بمهرجان القاهرة السينمائي الأربعين