فنون
في ثالث أيام البانوراما.. “الفن المعاصر” في خلفية أحداث الوثائقي “بويز” والروائي “المربع”
يتقاطع الفيلم الوثائقي “بويز” مع الفيلم الروائي الطويل “المربع” اللذين عرضا في فعاليات اليوم الثالث لبانوراما الفيلم الأوروبي، في العديد من الأفكار، منها تلك الأسئلة التي طرحت حول ما هو الفن، وكيف يمكن جذب انتباه أكبر عدد من الناس إليه خاصة إذا لم يكن فنا تقليديا كالرسم والنحت والموسيقى، لكن كل فيلم من الفيلمين من خلال شخوصه وخطه الرئيسي ليسا فيهما أي تشابه، لا على مستوى الشكل ولا المضمون.
“بويز” وثائقي عن فنان ألماني مازال “مثيرا للجدل”
عرضت شاشة “زاوية” الفيلم الوثائقي “بويز”، مترجما إلى العربية والإنجليزية، وهو يتناول السيرة الذاتية للفنان الالماني جوزيف بويز الذي توفي عام 1986، لكن المخرج “أندريس فييل” لم يسرد تلك السيرة بشكلها التقليدي منذ الميلاد حتى الوفاة، بل على العكس، ذكر الميلاد عرضا، ولم يتناول وفاته، بل كانت حياة “بويز” بين الميلاد والوفاة، وخاصة الجانب الأكبر منها والمتعلق بممارسته للفن الحديث، كان المحور الرئيسي للفيلم الذي امتد لأكثر من ساعة ونصف الساعة.
“بويز” أو كانت تنطق في الفيلم “بويس” أو الفنان ذو القبعة كما كان يُطلق عليه، لإرتدائه المستمر قبعة ربما ليخفي آثار إصابته في الحرب العالمية الثانية، عندما كان جنديا في سلاح الطيران الألماني، وسقطت به الطائرة التي كان يقودها، اللافت أن الفيلم عرض لمقابلة مع “بويز” سرد فيها ما تخيل إن حدث بعد سقوط طائرته، كان يردد إن “التتار قد أنقذوه بعد تحطم طائرته، ودهنوا جسمه بالشحم وغطوه باللباد حتى شفي تماما”، ولم يرد على سؤال من محدثه إذا كان هذا ما قد حدث فعلا أم إنه من وحي خياله(!)
“بويز” الذي كان يُطلق عليه في بلده ألمانيا “الفنان المثير للجدل”، وكان يخوض نقاشات عدة في التليفزيون أو من خلال محاضرات للدفاع عن ما يقدمه بصفته فنا، فهو كان يرى أن كل إنسان فنان، وإن كل شيء يصلح تقديمه كفن، لكن المهم ما هي الأفكار التي يطرحها العمل الفني.
“بويز” لم يكن فنان تقليديا، يستخدم الريشة والألوان، أو شاعرا، أو نحاتا، لكنه كان صاحب أفكار مختلفة عن العمل الفني، ودور الفن بشكل عام في المجتمع، نجد أنه شارك في معرض فني قدم خلاله سيارة فولكس فاجن صغيرة، مفتوحة من الخلف، وينزل منها قرابة 50 زلاجة وسمى هذا العمل الفني “القطيع”، تارة أخرى، يشارك في نفس المعرض لكن ليس بعمل فني، جاء بمفرده وأحضر معه ما أسماه “منظمة الديمقراطية المباشرة” وجلس ليجيب على أسئلة الحضور، قال إنه سيجاوب على أي سؤال، وسيدخل في أي نقاش يطرحه زائريه.
ركز الفيلم كثيرا على المجهود الذي بذله “بويز” لكي يقنع الناس بفنه، لكنه في الوقت نفسه لا يبدو من أنه كان متذمرا ممن يطلقون عليه: مجنون، أحمق، كان يسخر من ذلك ويقول “ما المشكلة في أن يبدو الناس كعدائيين، يحطمون الأشياء، يتصلون بي عبر الهاتف ليقولوا لي أنت أحمق، مجنون، غبي، فربما يمكننا أن نتحدث إليهم..”.
لم يكن “بويز” يرى نفسه كفنان ينتهي دوره عند عرض العمل الفني، بل أراد ترشيح نفسه للبرلمان الألماني “البوندستاغ” عن حزب الخضر الذي كان أحد مؤسسيه، لكنه في النهاية لم ينل ثقة حزبه لترشيحه على القائمة، كما تزعم اعتصاما للطلاب الذين لم يتم قبولهم في أكاديمية الفنون، وهو كان أستاذا في الأكاديمية نفسها، كما فتح صفه لكل الطلاب الذين رغبوا في الإنضمام، فوصل عددهم في النهاية إلى قرابة 400 طالب، مما أدى إلى حدوث فوضى عارمة، انتهت بفصله هو.
ربما اختلفت ردود الفعل على الفيلم ، فيمكن أثناء خروجك من صالة العرض أن تلتقط أذنيك، آراء مثل “فيلم زبالة” أو “عجبني جدا”، أو ترى البعض يتثاءب عند الخروج، ويمكن أن ترى جمع من المشاهدين خرجوا ليقيموا حلقة نقاش حول ما دار في الفيلم من أفكار، وربما يتشابه هذا كثيرا مع آراء الناس في فن “بويز” نفسه عندما كان حيا، وهو الذي قدم عرضا أسماه “كيف تشرح الصور لأرنب ميت”، وجلس داخل صندوق زجاجي، يحمل أرنب ميت على ذراعيه، ثم يحاول أن يشرح له الصور على الحائط، يراه جمع من الناس، الكثير منهم يضحك منه، والبعض ينظر بإشئمزاز، بجانب مريديه المبهورين بفنه وقدرته على مقاومة السخرية والمضي قدما نحو تحقيق ما يريد، حتى لو كان مشروع لزراعة 7000 شجرة بلوط بجانبها 7000 حجر، ويذهب إلى اليابان يروج للخمور ويلقي المحاضرات لكي يضمن تمويلها لمشروعه.
“بويز” الوثائقي الذي عُرض في إطار المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي الدولي 2017، ومهرجان كوبنهاجن السينمائي الدولي للأفلام التسجيلية، والذي تعرضه البانوراما العاشرة للفيلم الأوروبي في قسم “موعد مع السينما التسجيلية”، فيلم جيد، يستحق المشاهدة، قدم حياة فنان بارز أثار العديد من الجدل في بلاده وخارجها، بسرد حساس للغاية، ونجح عبر العديد من الفيديوهات الأرشيفية لـ”بويز” أن يجعله يروي قصته بنفسه، مع أشخاص كانوا مقربين منه، يطرح العديد من التساؤلات عن الفن ما هو وكيف يمكن تقديمه، ودور الفنان خارج إطار معرضه وورشته.
يمكن مشاهدة “بويز” من خلال عروض البانوراما، في حفلة الرابعة مساء الخميس 16 نوفمبر في سينما الزمالك.
“المربع” الفن المعاصر في خلفية الأحداث
لا يمكن النظر إلى الفيلم السويدي “المربع” على أنه يدور حول الفن المعاصر، لكن الفن يدور في خلفية الأحداث، حول “كريستيان” مدير أحد متاحف الفن المعاصر، وينتمي إلى الطبقة التي تضم صفوة المجتمع، يرتدي ملابس أنيقة للغاية، ويقود سيارة كهربائية، ويتمتع بنفوذ على موظفيه يجعلهم يتحملون المسئولية عن أفعاله التي لا تتسم بالحكمة، حتى يضطر في النهاية، وهو الذي لم يعتد أن يقر بخطأ أو يتحمل مسؤولية أن يستقبل من منصبه، لتهدئة رأي عام غاضب من فيديو نُشر ضمن حملة دعائية لمعرض فني بعنوان “المربع، عبارة عن عمل مركب في الفراغ يدعو المارة إلى “تذكر مسئوليتهم تجاه الآخرين”.
“المربع” الحاصل على السعفة الذهبية بمهرجان كان السينمائي الدولي 2017، واحد من الأفلام التي انتظرها جمهور البانوراما، وهو بالفعل يستحق المشاهدة، على الرغم من مدته (142 دقيقة)، ومشاهده الطويلة المربكة، والتي تجعل المشاهد يتساءل عن الأفكار التي تكمن خلفها، لكنه في الوقت نفسه فيلم لطيف استطاع أن ينتزع الضحكات من المشاهدين، على المواقف الغريبة وردود الفعل الغير متوقعة من شخوص الفيلم، والحوار الذكي جدا، بالإضافة إلى الديكور والإضاءة اللذين جعلا عالم البطل يبدو “مثاليا”، لا تشوبه شائبة، لكن الشوائب تكمن في شخصيته هو الغير محبوبة، المتسلطة، والغير مسئولة، وبعد أن يجد نفسه مجردا من وظيفته يذهب ليبحث عن من أساء إليهم، ليعتذر ويتخلص من إحساس عميق بالذنب، وصوتا يتردد في أذنيه “ساعدني.. ساعدني”.
في “المربع” لا تساؤلات حول ما هو الفن، لكن الفن الذي كان يحارب “بويز” من أجل الاعتراف به، متسيدا هنا، معترف به، بل تسخر من أجله كل الإمكانيات لكي يصل للجمهور، يحتل مساحة بارزة في المتحف، وهناك العديد من المحاولات من بعض شخوص الفيلم لكي يظهر على صفحات الجرائد، ويجذب انتباه الجمهور، مما دفعهم لتصوير فيديو لطفلة مشردة تنفجر ثم دعوة لتقديم المساعدة، حقق 300 ألف مشاهدة بعد إطلاقه، وأغضب الرأي العام، وأثار نقاشات حول حدود حرية التعبير، عن السخرية من واستغلال قضية المشردين من أجل الترويج لمعرض فني، وكل ذلك ضمن أحداث الفيلم الذي اتسم بالحيوية، ووضع مشاهديه طرفا في القضايا التي يطرحها وربما يجعلهم يتخذون نفس موقف مخرجه من شخصية “كريستيان” التي تعيش ازدواجية بين ما تروج له من أفكار من خلال الفن، وما يسلكه في حياته من تصرفات تعكس التعالي والرعونة.
يمكن مشاهدة الفيلم السويدي “المربع” ضمن فعاليات بانوراما الفيلم الأوروبي، في حفلة السابعة مساء الخميس 16 نوفمبر، سينما الزمالك، مع مراعاة أن يتم الحجز مبكرا حيث إن التذاكر يمكن أن تنفذ قبل موعد العرض بوقت طويل.