فنون
رومــا.. يوميات الصمود والبقاء
حاز الفيلم على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي 2018

صيف 1971. القيظ لا يأكل الأبدان فقط بل يلهب الحالة السياسية في البلاد حيث تندلع مظاهرات الطلبة وتخمدها قوات الأمن بشراسة. وثمة أحداث جِسام على المستوى القومي، لكن هذا لا يهم في مقابل سعي المخرج ألفونسو كوارون لسرد مقطع زمني من التاريخ العائلي لأسرة مكسيكية تقطن في حي “روما”.
بحسٍ هادئ ومتأمل يصحبنا كوارون لرصد أجواء هذا البيت الذي ينتمي للشريحة العليا من الطبقة المتوسطة، الأب الذي يعمل طبيبا استطاع تأمين منزل كبير بخـدمٍ لزوجته وأبنائه الأربع لكنه لم يستطع البقاء معهم. تستعرض الكاميرا المنزل ببطء شديد وتعيد ذلك مرات ومرات حتى أنك تحفظ تصميمه، وتقودنا في هذه الرحلة “كليو” العاملة بالمنزل والمنهكة طوال الوقت، ونتابعها وهي تنظف المنزل وتجمع الملاءات وتحضِّـر الطعام وتوقظ الأطفال إلى جانب العديد من المهام التي لا يبدو أنها ستنتهي. وفي الخلفية يصدر صوت صاحبة المنزل تنادي عليها: يا خادمة.
نتورط مع “كليو” منذ بداية الفيلم حين نشاهدها تقوم بمسح الممر الخارجي للمنزل. أمواج الماء والصابون ستعكس على صفحتها طائرة تحلِّـق في السماء قبل أن تبتلعها بلاعة صغيرة. سنرى “كليو” وهي تنظف روث كلب العائلة وتصعد إلى السطح لغسل الملابس ونشرها دون أن تتذمر. ستدلل الابن الأصغر ولن تمل من الإجابة على أسئلته الصعبة، ستهتم بالطيور وتطعمها.. وستلبي مطالب العائلة حتى وهم يشاهدون عرض رجل الخوارق في التلفاز، وحين تجلس لتشاهده معهم تأمرها ربة المنزل بإعداد الشاي لزوجها الطبيب.. حِـس خفي من الإستعباد تستشعره نحو هذه الفتاة الضئيلة في هذا المنزل الكبير.
حتى الآن لا يؤسس الفيلم لأي قصة موازية مع قصة “كليو” حتى أننا نعتقد أن الفيلم يدور حولها فقط.. أحلامها واحباطاتها، عوالم العمالة المنزلية وسخريتها من أرباب العمل، متع الحياة الضئيلة والمقتنصة لإحدى العاملات المنزليات والتي ستكون مجرد نزهة آخر الأسبوع في شوارع المدينة مع زميلتها في المنزل. ستخرجان معا وترتادا مطعما صغيرا، وتعرِّفها على شاب يجيد الفنون القتالية وستتكرر نزهاتهما هي والشاب وتتوطد علاقته بها حتى تحمل ابنه الذي سينكره ويهرب منها.
في المقابل.. تتأزم علاقة سيدة المنزل بزوجها وتحاول استعادته دون أمل.. يبعث لها بخطاب هجران وتخفي الأمـر عن أبنائها وتحاول الصمود دون أن تبلغهم بانفراط عقد الأسرة الذي يبدو في الأفق. تعطي لهم الأوراق والأقلام وتستكتبهم:
- قولوا لأبيكم كم أنكم تحبونه وتفتقدونه.
كلتاهما على وشك فـقـدٍ تبدو بشائره بوضوح شديد، لكنهما تُـنكران وتقاومان كلٍ بطريقتها. وكلتاهما تسعى للمحاولة مرة أخرى والبحث عن حلول بديلة كتغيير السيارة الكبيرة التي لا يتسع لها الممر والتي كانت تحتاج لحرصٍ شديد لإدخالها فيه، ستقوم الأم لاحقا بشراء سيارة أصغر يسهل قيادتها، وستحاول “كليو” الوصول لحبيبها لاستعادته زجعله أبـا شرعيا لجنينها. وستتضامن ربة المنزل مع “كليو” فتذهب بها للمستشفى التي يعمل بها زوجها الطبيب، بحثا عنه ولتقديم المتابعة الطبية لـ “كليو” بعد أن استقر حملها. وتقوم الجدَّة بشراء سرير للطفل المنتظر.
في خلفية الأحداث سيتظاهر الطلبة وتقمعهم الدولة بميليشيات من رياضيي الفنون القتالية ومن ضمنهم حبيب “كليو” فتراه يطارد هو ورفقائه شابا وفتاة من الثوَّار ويغتالون الشاب أمام عينها لتدرك “كليو” أي حبيب صادفت.
الحياة يجب أن تسير.. تقاوم الأم هجران زوجها، وتقوم بزيارة أخيه هي وأبنائها كما هو حال الأسرة كل إجازة صيفية.. لم يحدث شيء.. وزوجها في مؤتمر طبي خارج البلاد.. هكذا تصدِّر لكل متساءل عن أسباب غيابه، ستقاوم إغواءا من صديق العائلة الذي يعلم الحقيقة وتشهد “كليو” هذا الموقف.
- فلنشرب نخب المولود الجديد..
تقول كبيرة الخدم بمنزل العـم ويقع كوب “كليو” ويُسفح شرابها على الأرض. لن نستغرب بعد ذلك حين نشاهد “كليو” وقد جاءها المخاض والثورة تشتعل في البلاد وابنتها تخرج ميتة للحياة. فتقبع مكانها بلا حراك تراقب طلل اليوم وتفقد حيويتها، لكن الأم تصر على أن تصطحبها للمصيف مع الأسرة، وهناك وفي أجواء احتفالية تصارح الأم أبنائها بوضعهم الجديد.. لقد هجرها الأب، ولكنه لا يزال يحبهم، وهو الآن بالمنزل يلملم أغراضه، وسياخذ السيارة الكبيرة التي طالما كانت غير ملاءمة للممر، كما أنها ستترك مهنتها التي لا تحبها، فالكيمياء العضوية لا تُطاق، وستعمل كمحررة أدبية في دار نشر، فلطالما أحبَّـت الأدب والروايات. وسيكون كتف “كليو” ملاذا للأبناء وانهيارهم بهذا الخبر.
في اليوم التالي ستترك الأم ثلاثة من أطفالها بصحبة “كليو” على الشاطئ لتغيير إطارات السيارة للرجوع للمنزل. وتكتشف “كليو” أنها لا ترى الصغيرة على مرمي بصرها ولا حتى أخيها الأكبر.. تنزل “كليو” البحر لأول مرة وهي لا تجيد السباحة. تحاول استعادة الصغار دون قدرة أو دراية لها بالعوم، تصمد أمام الأمواج التي تبتلع الشاشة فنغوص معها أعمق وأبعد، ولكنها تنجح في جلب الطفلين إلى الشاطئ وتصل الأم فتتفاجئ بما حدث، تشكرها وتحتضن أبنائها و”كليو” في المنتصف كنواة لتلك الأسرة التي تتدثر بها، وهي منهارة تماما تُصرِّح “كليو” للأم بأنها لم تكن تريد لطفلتها أن تخرج للوجود.
في أثناء العودة للمنزل في المدينة.. تستقبلهم مارشات العروض العسكرية.. فقد نجحت الدولة في إخماد الثورة.. وفرقة الموسيقى العسكرية تجوب الشوارع احتفالا بانتصاراتها.
قد يبدو الزمن الحقيقي الذي استغرقته بعض المشاهد التي تجسد عمل “كليو” المنزلي دربا من الإطالة والتزيُّـد في إيقاع الفيلم، لكنه عَـكَـس إيقاع هذا الزمن حين كان اليوم طويلا يسمح باستضافة كل هذه الأعمال على صعوبتها ولم تكن الأيام لتلهث كما هو حال أيامنا، واختار ألفونسو كوارون الأبيض والأسود والرماديات كألوان للفيلم الذي يبدو فيلما إستيعاديا لحقبة زمنية عايشها صانعه في طفولته، يحاول أن ينثر فيه ذكريات الطفولة الحميمة كحروق المصيف ومشاغبات الأخوة وارتياد السينمات والتحلية بالأيس كريم، ومـال كوارون إلى اللقطات المتسعة واللقطات شديدة الاتساع الأقرب لكارت البوستال بمناظره الخلابة التي نرسلها للأحبة تخليدا لذكرى السفر والمتعة، والفيلم يحاول أن يستحضر هذا الزمن ويستجلبه للحاضر من خلال سرد يوميات أسرة تقليدية تنتمي للبرجوازية المكسيكية في نهايات القرن الماضي، كل ذلك يتم بنعومة وسلاسة كعبور الطائرات في السماء والذي تكرر أكثر من مرة بالفيلم، والتي على بُـعدها هي الأخرى فإنها حاضرة كذكرى يجلبها المرء منا حتى لو تبيِّـنها بصعوبة، وحتى لو كانت بعيدة في خلفية المشهد.
- حاز الفيلم على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي 2018
- يُعـرض الفيلم ضمن القسم الرسمي خارج المسابقة بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الأربعين. يوم الأحد 25 نوفمبر 2018 بسينما كايرو فيستيفال السادسة والنصف.
ْإعلان الفيلم:
121 تعليقات