فنون

“ليلة الإثنى عشر عامـا”.. أو ألف سنة مما تعدون

هل تفتقد السلطة إلى البصيرة؟ وهل تحتاج إلى المستشرِف؟

نبتة صغيرة.. خطاب حب.. شعاع ضوء ينسل من نافذة الزنزانة.. لعبة شطرنج.. أبيات شعر.. والعديد من الأشياء الصغيرة التي يمكن أن تحكي عن قضايا كُـبرى.. وستكون هذه الأشياء وسيلة “ألفارو بريخنر” السردية ليحكي لنا قصته العظيمة عن اندحار الحُـكم الديكتاتوري في الأرجواي وانتصار الديمقراطية ولو بعد 12 عاما.

عبر قصة ثلاثة ثوار يختار المخرج وكاتب النص السينمائي أن يحكي فيها مآلات الثورات وتحولاتها التي شهدتها دولة الأرجواي، الفيلم يبدأ فور إلقاء القبض على الثوار الثلاث ورئيس القلم السياسي يخبرهم أنه ودَّ لو أنه قتلهم حين تسنَّـت له الفرصة، ويراوح السرد بين ليلة القبض عليهم ويوميات السجن أو سنواته الإثنى عشر إن شئنا الدِقِّة.

(روسـو)

“في نوبة الحراسة..

وأنا سجين غيابك..

أشعر بدمعتي تجري من عيوني”

ليس هذا شعر هايكو.. ولكنها رسالة سيبعثها الجندي المنوط بحراسة الثوّار الذين تم اعتقالهم على خلفية التمرد الذي حدث في الأرجواي عام 1971 . هذا هو السجن الثالث الذي ينتقلون إليه.. وسيتم نقلهم كل حين لسجن جديد ولكن بنفس القواعد التي تسلموها فور اعتقالهم: ممنوع عليهم التحدث مع بعضهم البعض، وممنوع عليهم التحدث مع الحراس. ولتستشعر أي سلطة ممكن أن تكون للكلمة حتى لو كانت أسيرة الزنازين. السجناء يحرمون من التواصل الإنساني الذي يُـعد أشد وأقصى أنواع العقاب، والجنود المنوطين بحراسة المعتقلين يسرفون في الحكي لبعضهم لدرجة إزعاج السجناء.. سيعرف “روسو” أن الحارس السمج يغازل فتاة تتمنّـع عليه، وحين يقول له “روسو” أن صديقها ربما كان في القرية وأن عليه استمالتها أولا برسالة حب ويعرض عليه أن يكتبها له؛ يسأله الحارس لماذا تريد مساعدتي فيجيبه لأنه ملَّ حكايته السخيفة.

يعرف رئيس السجن بما حدث ويأمر بإحضار “روسو” السجين السياسي الذي يكتب للجنود رسائل الغرام.. يتوعد الجنود “روسو” ويعدونه بعقاب أشد من الضرب والتعذيب الذي لاقاه من قبل، وحين يأتون به إلى رئيس السجن يأمرهم أن يخرجوا ويخلع عنه غمامته ويقول له: هي فتاة سمراء.. وأنا معجب بها وأريد أن أكمل حياتي معها. يستكتبه ويوقِّـع فقط على خطاب الغرام الذي يحمل اسم السجان وكلمات الأديب. هل تفتقر السلطة إلى الخيال؟؟ وهل يحتاج السياسي إلى الفنان؟؟

(نياتو)

السخرية أو الكوميديا السوداء هي تكأة “بريخنر” هذه المرة ليسرد قصة “نياتو” ثاني الثوار الذين تم إلقاء القبض عليهم وذلك حين يتعذر على السجين قضاء حاجته وهو موثق بقيده الحديدي في القضبان العالية.. لا يستطيع ثني ركبتيه والدلو بعيد عنه، ولا يستطيع الجندي المنوط بحراسته فك قيده إلا بأمر من رئيسه الأعلى، الذي بدوره لا يستطيع أن يتخذ مثل هكذا قرارا إلا بالرجوع إلى رئيسه، وفي كل مرة يأتي الجندي ثم الأعلى رتبة فالأعلى رتبة حتى يمتلئ الحمام بالجنود وأصحاب الرُتب الذين لا يستطيعون البتّ في أمر السجين المعذور وحالته المستعصية إلى أن يصلوا للرتبة الأعلى بالسجن الذي ما أن يأتي ويرى عبثية الموقف حتى يصفهم بالجنون فيخرج وهم من بعده و”نياتو” معلَّـق بقيده وسرواله يتدلى منه. لكنه في غمرة تلك الأحداث يستطيع “نياتو” إخفاء بعض قصاصات الصحف وجدها في الحمام ليقرأها في وحدته ويعرف كيف تغير العالم في سنوات السجن. لقد ارتفعت أسعار أجهزة التلفاز، وحصل فريق آبـا الغنائي على جائزة يوروفيجين في عام 1973. وتمر الأعوام وهو في السجن حيث وُلِـدت ابنته وكبرت لتصير طفلة جميلة، وحين تأتي لزيارته يحكي لها حكاية ويده مغلولتان في القيد فلا تراهما الصغيرة، وحين تسأله لماذا لا يملك يدين يخبرها أن لديه بالفعل إثنتين ولكنهما تحولتا إلى فراشة.. يُـخرج يديه المتقاطعتين وهما في القيد ويهزهما لتطيران في الهواء كما الفراشات.

هل تفتقد السلطة إلى الإبداع؟ وهل تحتاج إلى الموهوب؟

(مويخا)

ربما كان أكبرهم وأكثرهم عزلة حتى أنهم أبعدوه عن كل من “روسو” و”نياتو” في زنزانة غير مجاورة لهما. وأحيانا في سجن مستقل، وهو ما تسبب له في الذهان الضلالي كما قالت الطبيبة النفسية التي راجعت حالته الطبية المتداعية.. أفقده التواصل الإنساني عقله أو كاد, ففي حين توصل كل من “روسو” و”نياتو” لطريقة للتواصل عبر الجدران عن طريق النقر بطريقة شفرة مورس؛ كان “مويخا” المُـبعد والوحيد يستمع لأصوات في عقله من كل حدب وصوب، وفي حين تبادلا “روسو” و”نياتو” المعلومات المتاحة لديهما، بل أنهما لعبا الشطرنج عبر تشفير إحداثيات الحركات على الرقعة.. كان “مويخا” يتعذَّب بأصوات في رأسه تأمره أن يبلغ عن زملائه.

وحين تتوصل أمه إليه أخيرا في أحد السجون ويخبرها بمعاناته تنهره وتأمره ألا يفقد نفسه وإلا صار مهزوما. تخبره أنها تركت له طعاما ووعاء بلاستيكيا لقضاء حاجته، ولا بأس أن يأخذ الحراس بعضا من الحلوى.

في إحدى الاحتفالات بالسجن وفي غمرة التهليل للقائد العظيم المفدّى يصرخ “مويخا” من محبسه: “أريد قصريتي.. أريد أن أقضي حاجتي” فأبسط الحقوق يفتقرها السجناء ولا يلاقونها حتى بزيارة وفد للأمم المتحدة لتقصي الأوضاع في سجون أوروجواي والتي تمر هي الأخرى بسلام وبتهديد من السجن للمسجونين بعدم التفوّه بأية كلمة، فيتم سحب الأوراق والمذياع والآلة الكاتبة والكتب والجرائد من محبسهم فور انقضاء الزيارة. ويتم نقل السجناء لسجن بالعاصمة الذي يرأسه الضابط الذي أحب الفتاة السمراء وأراد الزواج منها ذات يوم، وهناك يظفر السجناء الثلاثة لأول مرة بتمشية في فناء السجن وضوء شمس يتسلل إلى بشرتهم الشاحبة ويؤدي “نياتو” عرضا وهميا بكرة القدم يسدد في نهايته هدفا في شبكته المتوهمة. أما “مويخا” فلم يزل يستمع لأصوات رأسه ويتخيل أمه التي تبشَّـره أن كل ذلك سوف ينتهي قريبا.

هل تفتقد السلطة إلى البصيرة؟ وهل تحتاج إلى المستشرِف؟

تتوالى السنين والأيام على الشاشة مع كل سجن ينتقل إليه الثوار، وفي سنة 1984 تندلع الاحتجاجات الواسعة ضد الحكم العسكري. وبعد إضرابٍ عام تبدأ المحادثات بين الطرفين، وتعلن الحكومة العسكرية عن خطة للعودة إلى الحكم المدني. ويتم إجراء الانتخابات الوطنية ويُفرج بعدها عن المسجونين لينالوا حريتهم أخيرا ويعودوا لأسرهم مع كتابة ماذا حدث بعد ذلك لكل منهم؛ فـ”نياتو” يصير وزيرا للدفاع.. و”روسو” أمينا للثقافة والإعلام.. أما “مويخا” الذي يخرج من السجن بقصريته وقد حولها إلى إصيص زرع يخرج منه نباته فيصير رئيسا للجمهورية.

نال الفيلم جائزة الهرم الذهبي في المسابقة الرسمية بمهرجان القاهرة الأربعين، وحاز تصفيق الجمهور الحاد في كل عروضه بالمهرجان لمدة خمس دقائق على الأقل.

 

 

 

 

الوسوم
إغلاق
إغلاق