فنون

من “المستعمرة” إلى “يوم الدين”.. بذرة أبو بكر شوقي التي أضحت شجرة

دون رؤية الفيلم الروائي سيكون من المربك بيان التأثر أو الاستلهام أو المعالجة الفنية التي أجراها أبو بكر شوقي على موضوعه حين ارتحل به بين نوعين فنيين

احتفالا بوصول الفيلم المصري “يوم الدين” للمخرج أبو بكر شوقي للمسابقة الرسمية في مهرجان كان السينمائي. عرضت جمعية نقاد السينما المصريين بشارع شريف، الفيلم التسجيلي “المستعمرة”

والذي كان المشروع التسجيلي لشوقي في السنة الثالثة بمعهد السينما.

العرض نظَّمته وأدارته الناقدة صفاء الليثي والمعروف عنها اهتمامها بالأفلام التسجيلية والروائية القصيرة تحديدا شهده طلبة معهد السينما من مختلف الأقسام والذين جاءوا لرؤية عمل زميلهم في قاعة الجمعية في الوقت الذي يُعرض عمله الروائي في أكبر المهرجانات السينمائية.

المخرجة التسجيلية أسماء إبراهيم حضرت العرض وكتبت عنه لـ”منطقتي”..

“أنت تخرج نفس الفيلم كل مرة” مقولة شهيرة للمخرج الفرنسي كلود سوتيه حين أراد أن يصف اهتمام بعض المخرجين بهاجس ما يظل يلح عليهم في أفلامهم تارةً بخفوت، وتارةً أخرى بجلاء أوضح.

الهاجس الذي ظل يلح على المخرج المصري أبو بكر شوقي منذ أن كان طالبا بالمعهد العالي للسينما وحتى بعد تخرجه وسفره لأمريكا وإنجازه فيلمه الروائي الأول الطويل يمكن التكهن به، وربما كان التعاطف مع المهمشين.. المنسيين عمدا أو عرضا، والمنتمين إلى الأطراف لا المركز، أبناء الهامش في المدن، حيث ضاحية أبي زعبل الواقعة على أطراف المدينة الكبرى وحيث عزبة الصفيح الامتداد السكني لمستعمرة مرضى الجُذام. ذلك المرض الذي يصيب العضلات والأعصاب، ليترك فريسته وقد تآكلت أطرافها فعجزت عن الإمساك بأحلامها. وعملا بمبدأ شوقي في الانتصار للهامش سنركز على الفيلم التسجيلي “المستعمرة” بعد أن خطف “يوم الدين” مركز الاهتمام، لعلنا نعيد التذكير بالمنسي ونحتفي بالمهجور المخفي..

فيلم المستعمرة لأبو بكر شوقي
فيلم المستعمرة لأبو بكر شوقي

اتساع واضح وفضاء ممتد هو الطريق إلى المستعمرة، حيث يبدأ الفيلم بلقطة تتسع عن إمرأة في العراء كنقطة منسحقة وحيدة يحاصرها الفراغ، قبل أن تقرأ على لافتة متهالكة “مستعمرة الجذام بأبو زعيل”، ولا وجود لعبارة “ترحب بكم” المعهودة فالمستعمرة ككلمة تحيلك إلى اللا وطن، إلى الاغتراب، وربما كان هذا هو شعور مستوطنيها من مرضى الجذام ممن يبحثون عن مكان للانتماء في ظل نبذ المجتمع وتخوفه منهم. لكن “المستعمرة” كفيلم يأخذ قالب الريبورتاج التسجيلي (حتى وإن استعرض على عجلة تاريخ الظاهرة التي يتناولها)، وعلى كلاسيكيته وتقليديته كمشروع تعليمي لطالب فنون، فإنه مشحون بالمشاعر ويدفعك للتفهم والتعاطف لا للرثاء مع شخوصه على مأساوية أوضاعهم. وأحسب أن فنيته تكمن في نزعه تلك الميلودرامية المحتملة والمتوقعة في مثل تلك النوعية من الأفلام.

لقطة من فيلم المستعمرة لأبو بكر شوقي
لقطة من فيلم المستعمرة لأبو بكر شوقي

هو فيلم في مديح المنبوذين والمهمشين الباحثين عن موطأ قدم تحت سماء الحياة.. لكن أبو بكر يلتقطهم بعين حانية رءوفة حين يبدأ فيلمه بالإشارة إلى السيد المسيح ومعجزته في شفاء المجذوم ويشفع تأسيسه هذا بجهود الراهبة هيلين بدير سان فنسان هي وغيرها من الراهبات في المستعمرة حيث “عنبر الموجب” حين تظل العدوى قائمة ونشطة مما يستلزم العزل التام لنزلائه، بينما يتسع هامش الاختلاط بين المرضى في “عزبة الصفيح” الحي العشوائي الذي بناه المرضى خارج أسوار المستعمرة. والذي سنرى قاطنيه يعملون بجمع وإعادة تدوير القمامة فنلتقي بالمريض الذي ترفضه المستشفيات خوفا من العدوى فيلجأ للمستعمرة للعلاج ولا يبرحها، وأطفال الجذام الذين يعملون إما في مزارع التين بأبي زعبل أو باعادة تدوير المخلفات، وبادعة التي سنكتشف المفارقة بين اسمها وحالها، فلا بديع في عشة صغيرة تأويها وصناديق كرتونية تأوي ملابسها، أطرافها تـآكلت مع أحلامها، ولم تفلح أربعون سنة هي عمرها في تحسين أوضاعها خاصة بعد أن هجرها زوجها لفتاة أصغر سنا وأصحّ بدنا وترك لها ابن وابنة تعولهما. فتكتشف أن الفقد والهجران هما الحقيقة الوحيدة في مستعمرة الجذام.

لقطة من فيلم المستعمرة لأبو بكر شوقي
لقطة من فيلم المستعمرة لأبو بكر شوقي

بادعة التي أكلها الزمن والمرض تقول أن ابنتها السليمة حِملٌ عليها وهي المريضة في مفارقة ستضاف لأخريات في الفيلم فخالتها جاءت بها إلى هنا، وحين ماتت لم تر بعدها أي من أهلها خلال 20 عاما.

“أعيط من قلة الراحة والتعب” تقول بادعة.. “النشر ده ماكنش له الميه.. كل لما أغسل ايديا توجعني” وتكمل: “الأوضاع دلوقتي مختلفة عن الأول.. لما بتيجي مريضة بيهتموا بيها وبيعملوا لها تدليك”

هل تصطنع بادعة التفاؤل أم تشير إلى تطور علاج الجذام؟؟ أم تبث الأمل تماما كما فعل أبو بكر حين عرض مشهد لفنانة إغراء بفستان عار وكأس في يدها وصبي يافع في طور المراهقة يعيش في المستعمرة يشاهدها في التلفاز.

ينتهي الفيلم بمحاولة لابن بادعة لتكسيره حجرا كبيرا بإعادة رميه على الأرض عدة مرات وقبل أن يصيبك يأسا سيزيفيا.. يصرخ الابن: “الحجر اتكسر أهو” خاتما أبو بكر فيلمه بضحكة واستفهاما للراهبة هيلين وهي تقول “الصحة دي أهم نعمة في الدنيا.. ولا إيه؟؟”

ولحين أن يتسنى لنا مشاهدة فيلم “يوم الدين” (ومن المراجعات النقدية التي تناولته)؛ لربما نسأل ما الذي ارتحل من الفيلم التسجيلي إلى الفيلم الروائي:

المهمشون والمنبوذون كمريض الجذام؟

التصنيفات العِرقية والدينية؟؟ كالطفل النوبي والكهل المسيحي؟

البحث عن أمل وفرصة للنجاة؟

أم البحث عن الجذور والشوق لعائلة كانت موجودة ذات يوم؟

ثم ماذا؟؟

العُـزلة الإجبارية والإقصاء؟

الحمار والعربة الكارو التي تستخدمهما بادعة في عملها بجمع القمامة ليصير الحمار حربي الذي ينفق في رحلة بشاي؟

أم بادعة نفسها التي أضحت بشاي؟

لقطة من فيلم المستعمرة لأبو بكر شوقي
لقطة من فيلم المستعمرة لأبو بكر شوقي

دون رؤية الفيلم الروائي سيكون من المربك بيان التأثر أو الاستلهام أو المعالجة الفنية التي أجراها أبو بكر شوقي على موضوعه حين ارتحل به بين نوعين فنيين ومن جنس إبداعي لآخر ومن تسجيلي قصير لروائي طويل. وسنترك سؤال أيهما الأصل وأيهما النسخة.. فكلاهما أصل.. كلٌ في فضائه.

لكن الأكيد أن تسع سنوات من العمل بلا صخب، وموهبة متقدة، ودأب دافئ ورهان على انتاج مستقل وغير نمطي كانوا جميعهم كفيلين بإخراج فيلم ينافس في مهرجان كان في دورته 71 ليعود بمصر على ساحة الابداع العالمي. فهل يفعلها أبو بكر؟؟

الوسوم
إغلاق
إغلاق