مقالات

محمد الخولي يكتب: عم “غزال”.. حكاية من حكايات وسط البلد

محمد الخولي يكتب: عم "غزال".. حكاية من حكايات وسط البلد
محمد الخولي يكتب:
عم “غزال”.. حكاية من حكايات وسط البلد

اسمع يا عم غزال.. هل تتذكر صيف 2015 عندما سألتك: لو كتبت عنك مقالا ماذا تحب أن يكون عنوانه؟
أنا أتذكر هذا اليوم جيدا، وأتذكر ردك، قلت: اكتب عليه “مصري”، وأنهيت الحديث في خجل لم أعهده عليك. ها أنت ترحل قبل أن أكتب عنك، وها هو المقال الذي وعدتك به أكتب بدلا منه مرثية فيك. مصري حقيقي، تحمل نفس ملامح الأغلبية، حريص على أكل عيشك، مهموم كغالبيتنا، مصري بسيط، بشوش الوجه، طيب اللسان، خفيف الظل، قليل الكلام. مصري عتيق، ترك قريته بمركز طهطا بمحافظة سوهاج، وهو شاب في أواخر الخميسينيات وجاء إلى القاهرة، بحثا عن لقمة عيش حلال فرزق مهنة “قهوجي”.. أحبها وأخلص لها فأصبح أشهر “قهوجي” في وسط البلد. مصري أصيل ترى مصر في تجاعيد وجهه، كما تراها على كراسي الممر الواصل بين شارعي شامبليون وعبد الحميد سعيد بوسط البلد. في هذا الممر القصير كانت مصر تجتمع بكل تناقضاتها، بصدقها وزيفها، بنزقها وحكمتها، بدوشتها وهدوئها، بكآباتها وبهجتها، بأحلامها وواقعها، بآمال ثورتها وإخفاقاتها. اسمع يا رجل: الكل يبكيك الآن، نبكيك كما نبكي أصدقائنا الذين رحلوا فجأة، وأهلنا الذين وصلنا خبر وفاتهم عبر الهاتف فلم نتمكن من وداعهم، وزملائنا الذين وعدناهم في المساء على الإفطار سويا في الصباح فأتى الصباح ولم يأتوا هم.

[us_separator type=”invisible”]

» نعم “قهوة عم غزال” ليست ملكا لعم غزال، بل هو عامل بها يأتي في الصباح ويغادرها مع منتصف الليل.. 

[us_separator type=”invisible”]
غلاف ملحق "توك توك" الصادر مع العدد 12 من منطقتي
غلاف ملحق “توك توك” الصادر مع العدد 12 من منطقتي – نص ورسوم: حفناوي

نبكيك الآن كما نبكي شهدائنا الذين رحلوا مجبرين، وعمرنا الذي ضاع في غفلة، نحن لا نبكيك وحدك في الحقيقة وإنما نبكي حكايتنا كلها. الصدمة تسيطر على كل من أعرفهم، المرثيات تتقاطر على وسائل التواصل الاجتماعي. تحكي عن مواقف معك، وطرائف لك، نجحت يا رجل كما هي عادتك أن تكون حاضرا ومؤثرا. نجحت أن تحتل الكادر كله حتى في غيابك الأبدي. الموت لص محترف اقتنص الفرصة وسرق روحك، الموت لعنة هدفها وجع القلب، لماذا استسلمت يا رجل بهذه السهولة؟ أم هي لحظة الراحة التي كنت تحدثنا عنها بـ”يلا حسن الختام”. فعلتها ككل حركاتك الخفيفة، فعلتها وكأنك أردت أن تزيد القلب وجعًا على وجعه، فعلتها وكأنك تريد أن ترى مقدار حبك في قلوبنا. عد يا رجل فقد اكتشفنا أننا نحبك أكثر مما كنا نتصور أو كنت تتوقع. يسأل أحدهم: لماذا تبكون رجلا يموت مثله في اليوم مئات؟ والحقيقة أنه لا توجد إجابة نموذجية لهذا السؤال، فلكل واحد حكايته مع عم غزال. بدلتك التي ورثتها عن ستينيات جمال عبد الناصر تشهد لك اليوم، “بدلة المحلة” كما اسماها عبد الناصر والتي صنعت لتنافس بدل فرنسا، ها هي الآن حزينة معلقة على جدار غرفتك، لن تجد من يرتديها بعد اليوم، ستتحول إلى أثر بعدما كان عرقك يعطرها كل يوم. مثلك كثر يا عم غزال قرروا العمل “قهوجية” لكن ليس من بينهم أحد عرفت القهوة باسمه، وهو لا يملكها، هل هذا معلومة صادمة؟ نعم “قهوة عم غزال” ليست ملكا لعم غزال، بل هو عامل بها يأتي في الصباح ويغادرها مع منتصف الليل.. (هل أخون الحقيقة عندما أردد ما يردده الآخرون وأقول كبغبغان “كان يحب الشغل فلم يتركه حتى مات”؟ فهذه أكذوبة كبيرة؛ الرجل كان مثل كُثر في بلادنا مجبر على العمل، لأن البديل هو الجوع.. ألم يحلم الرجل بالراحة يوما، وبالوقت الذي يسمح له بزيارة أضرحة أولياء الله الصالحين، ألم يتمنى حجة أو عمرة كأغلب من هم في عمره. قهوتك ياعم غزال كغيرها من مقاهي وسط البلد، ليست مجرد كراسي ومشروبات وشيشة، وإنما مكون حقيقي لخبراتنا ومشكل أساسي لشخصيتنا. كانت قهوة جامعة، لا يضلها من نزل إلى وسط البلد.. لقد انسحب العمر منك، وسيرتدي أهل بيتك الأسود حزنا عليك، ويضعون شريطا أسودا على صورتك المعلقة على الجدار، سيذكرونك في كل صباح ومساء، وسنذكرك كلما نزلنا وسط البلد، فلا تعتقد أن رحيلك يجعلنا نغير اسم المقهى، سنظل نسميها “قهوة عم غزال”، وسنظل نعطي الوعود باللقاء عند عم غزال. فلتهنأ بحياتك الجديدة، فلتسترح من تعب السنين، استرح يا رجل سيرتك عطرة، وذكرك سيبقى للأبد.

الوسوم

تعليق واحد

  1. تنبيه: Google
إغلاق
إغلاق