ملفات
مجمع التحرير.. هرم البيروقراطية الأكبر يستعد للرحيل

إذا كان هرم خوفو الأكبر هو التجسيد المعجز لاحتفاء المصريين القدماء بالموت والخلود، فإن مجمع التحرير، بدون مبالغة، هو التعبير الأكثر إعجازا عن مركزية الدولة المصرية وبيروقراطيتها التي تستعصي على أي تحديث!
ذلك أن المبنى الهائل، المطل على ميدان التحرير، مركز العاصمة وميدانها الأشهر، لا مثيل له في العالم تقريبا، من حيث الدور الذي يلعبه والمهمة التي أنشئ لأجلها، فهو مقام لتجميع الخدمات الإدارية والحكومية في مكان واحد.. باختصار، وبمنطق زمانه بداية الخمسينات فإن المجمع يشبه فكرة «الشباك الواحد»، أو الجهاز الذي يقدم كل الخدمات إلكترونيا في عديد من الدول حاليًا، لكنه في مصر بارتفاع 55 مترًا، وبمساحة 5 آلاف متر مربع، ويعمل به نحو 18 ألف موظف!
لعل مجمع التحرير هو أكبر مبنى إداري في الشرق الأوسط، ويضم دورًا أرضيًا و13 طابقًا آخرين، ويبلغ عدد حجراته 1310 حجرة، و10 مصاعد تخدم المواطنين وموظفي المجمع، فيما يستقبل ما بين ٢٠ ألف إلى ٢٥ ألف شخص يوميًا، وللمبنى مدخلان رئيسان بالواجهة، وآخران جانبيان، بالاضافة لمخرج للطوارئ، سُمي سابقًا “مجمع الحكومة” وتحول إلى “مجمع التحرير” بعد يوليو 1952.
«المجمع» بناه الملك فاروق وصار رمزًا لدولة يوليو
على عكس ما يعتقد الكثيرون، فإن مبنى مجمع التحرير الذي أصبح رمزا للحقبة الناصرية وجمهورية يوليو، أنشىء قبل الثورة. فبعد رحيل القوات البريطانية عن مصر، قرر الملك فاروق هدم الثكنات العسكرية الإنجليزية التي كانت تحتل ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليًا)، وتلت ذلك عدة خطط لتطوير الميدان.
في عام 1948 بدأ المعماري المصري محمد بك كمال إسماعيل في بناء «مجمع الجلاء» (مجمع التحرير حاليًا)، بتكلفة بلغت 350 ألف دولار، بهدف توفير النفقات الباهظة التي كانت تتحملها الدولة المصرية جراء استئجار عدد كبير من العقارات لمصالحها، وأيضا لتوفير جهد المواطن الذي كان يضطر إلى المرور على عدة مكاتب في عدة أماكن لتخليص أوراقه.
ورغم أن «قوس» مبنى المجمع كان له دور في تحديد شكل ميدان التحرير، فقد صمم المجمع على الطراز الحداثي، بأقل قدر من «الجمال» في الواجهة، حيث انصبّ الاهتمام على «الجدوى والفائدة» أكثر من الناحية الجمالية، فقد كان يجب أن يتسع لأربعة آلاف موظف في ذلك الوقت. ورغم أن مصممه وصفه في حوار تليفزيوني بأنه «شكل مبسط من الطراز الإسلامي»، فإن ذلك لا يتضح في الواجهة بقدر ما يتضح في الرواق الضخم الذي يفتح على الأبهاء الواسعة، والأقواس العالية.
المبنى الذي أشرفت عليه شركة مقاولات مصرية إيطالية باسم “إيجيكو”، افتتح رسميًا عام 1951، ومع مرور السنين تضاعفت أعداد الموظفين العاملين فيه حتى بلغ نحو 18 ألف موظف، وأصبح يتردد عليه عشرات الآلاف من المواطنين يوميا، ما تسبب في اختناق مرورى في قلب العاصمة، دعا الحكومات المتعاقبة إلى التفكير في نقله إلى مكان آخر لتخفيف العبء عن وسط البلد، وسرت الشائعات منذ سنوات عن احتمال تحويله إلى فندق خمس نجوم، وهو ما نفته الحكومة وقتها. لكن تصميمه المعمارى يطرح سؤالا جادًا حول ما إذا كان يمكن تحويله أصلا إلى أي شيء آخر بخلاف ما هو عليه.
المعماري كمال إسماعيل، هو الأبرز من جيل المعماريين المصريين الرواد، فبخلاف مجمع التحرير، قام بتصميم مبنى دار القضاء العالي المهيب، ومسجد صلاح الدين بالمنيل، أما أبرز أعماله على الإطلاق فكانت التوسعات في الحرمين الشريفين، حيث اختاره الملك فهد بن عبد العزيز شخصيًا لإتمام هذا العمل.
إسماعيل ولد في 15 سبتمبر عام 1908، في مدينة ميت غمر بالدقهلية، ثم انتقل إلى الإسكندرية، ومنها إلى القاهرة لدراسة الهندسة في جامعة فؤاد الأول. وكما كان أصغر من حصل على الشهادة الثانوية (التوجيهي) في تاريخ مصر، فكان أصغر من دخل مدرسة الهندسة الملكية، وأصغر من أرسل في بعثة إلى أوروبا، ليحصل على الدكتوراة في العمارة الإسلامية، وعاد إلى مصر ليصبح أصغر من يحصل على وشاح النيل ورتبة البكوية.
توفي اسماعيل في أغسطس عام 2008، قبل نحو شهر من عيد ميلاده المئة، وترك وراءه أحد أشهر المباني في تاريخ مصر المعاصرة.
ويضم المبنى الحكومي الأشهر العديد من الهيئات والمصالح، منها قطاعات تابعة لمحافظة القاهرة ووزارة العدل ووزارة القوى العاملة ووزارة الشباب والرياضة والتعليم العالي وغيرها.
ومؤخرا، تتبنى الحكومة خطة لتطوير مجمع التحرير وترميم واجهته، وإخلاءه من بعض إداراته تمهيدًا لإخلاءه بشكل نهائي، حيث أُخلي 122 مكتبًا تابعة لوزارة التضامن الاجتماعي، كانت تشغل الدور الخامس بالمبنى الضخم، على أن يُخلى المبنى كاملًا بحلول 30 يونيو من العام الجاري.
المبنى الهائل ينتظر الإخلاء التام
في منتصف يناير 2016، أعلنت محافظة القاهرة عن خطة تبدأ في 30 يونيو من نفس العام، لنقل بعض إدارات المجمع تمهيدًا لتفريغه بالكامل بحلول منتصف عام 2017، أما المكاتب المقرر نقلها كبداية بحسب ما قاله لنا اللواء محمد أيمن، نائب محافظ القاهرة، والمشرف العام على المجمع، فهي الخاصة ببعض الوزارات المهمة كمكتب وزارة الداخلية والجوازات ومباحث الأموال العامة ووزارة التعليم العالي، وكذلك مكاتب المديريات التابعة لمحافظة القاهرة كمديرية النقل والطرق ومديرية الإسكان ومديرية الشباب والرياضة والإدارات التعليمية، إضافة إلى مكتب نائب المحافظ والمكاتب الخاصة بالمحافظة، ومن المفترض أن يتم تدبير مقار أخرى لها في مصلحة الأحوال المدنية بالعباسية ومبنى محافظة القاهرة.
أما الهدف من النقل –وهى خطوة جيدة تأخرت كثيرا جدا- تخفيف الضغط المرورى عن منطقة وسط البلد، بتفكيك المبنى الذى يرتاده يوميا ما بين 25 و30 ألف شخص، وبالنظر إلى ما يضمه المجمع نحن إذا أمام عملية تشبه عملية تفكيك ونقل معبد أبو سمبل بعد بناء السد العالى!
271 تعليقات