ملفات
١٠٧ عام على سوق باب اللوق.. من ينقذ تاريخه من الإهمال؟

مائة وسبعة عام.. هي عمر سوق باب اللوق العريق، أحد أهم الأسواق الشعبية المغطاة في منطقة وسط البلد، والذي كان يومًا نموذجًا على الحداثة يضاهي نظائره من الأسواق المركزية الكبرى التي انتشرت في مختلف أنحاء أوروبا في القرن التاسع عشر.

لافتته التاريخية المعلقة على جدرانه تلفت انتباهك لدى وصولك إلى شارع باب اللوق، مدَّون عليها عبارة “سوق باب اللوق”، ومترجمة إلى الفرنسية أيضًا “MARCHE DE BAB EL-LOUK“.. محال متنوعة هنا وهناك بضائعها أغلبها خضر وفاكهة ولحوم وعطارة وورش لتصنيع الجلود، وغيرها، كل هذا وأكثر على مساحة تبلغ 6200 مترًا هي مساحة السوق، تصميم السوق نفسه عبارة عن ممرات ضيقة يفتح كل ممر على شارع مختلف من شوارع منطقة وسط البلد.
أنشأه “قطاوي” رئيس الجالية اليهودية في القرن العشرين
أول من فكر في تشييد هذا السوق العريق هو رجل الأعمال المصري يوسف أصلان قطاوي، رئيس الجالية اليهودية المصرية في النصف الأول من القرن العشرين، والذي كانت له إسهامات كبرى في الاقتصاد المصري، حيث اشترك عام 1920 بالتعاون مع طلعت حرب الاقتصادي المصري الأشهر ويوسف شيكوريل رجل الأعمال اليهودي في تأسيس بنك مصر، وشغل عددا من المناصب في الدولة المصرية.
في عام 1911 عهد قطاوي لمعماريين فرنسيين بتصميم السوق على الطراز الأوروبي
وكان قطاوي خلال دراسته للهندسة بفرنسا قد انتبه لوجود أسواق كبرى مغطاة لمد باريس بالمؤن والأغذية الطازجة، فأعجب بالفكرة ورغب في تطبيقها في مصر. وبالفعل أسس سوق باب اللوق بالقاهرة.. وقع اختيار قطاوي على الموقع بالقرب من محطة ترام حلوان بميدان الفلكي، (التي كانت تربط وسط القاهرة بالضاحية الراقية جنوبها آنذاك). وفي عام 1911 عهد قطاوي لمعماريين فرنسيين بتصميم السوق على الطراز الأوروبي، على شكل حدوة حصان، والسقف على شكل جمالون ضخم يتضمن فتحات تهوية تضمن تجديد الهواء والإنارة الجيدة.

وفي العام 1912 افتتح سوق باب اللوق في احتفال مهيب حضره رجال الطبقة الأرستقراطية المصرية، ورؤساء الجاليات الأجنبية، وظلت السوق تخدم زبائنها من الطبقة الثرية، فيما كان عامة الشعب يذهبون لسوق العتبة وعدد من الأسواق المتناثرة على مداخل القاهرة سواء من الأجانب أو المصريين.
حاز السوق شهرة كبيرة فور إنشائه، لوقوعه في قلب المدينة، وسهولة وصول المواصلات إليه، وكذا لنظافته الفائقة، حيث كان يُنَّظف مرتين على الأقل يوميًا، مع وجود خزانات تبريد لحماية الأغذية من التلف.
السوق الضخم الذي يشبه حيًا كاملًا داخل باب اللوق صُنع من الطوب والحديد، وكان صيحة في عالم الأسواق، إذ يجمع العديد من السلع داخل مكان واحد، على عكس المعتاد في ذلك الوقت، وهو وجود سوق مخصص لكل مهنة أو سلعة.

يتكون تصميم السوق من دور أرضي ومخزن تحت الأرض كان قديما عبارة عن ثلاجات لحفظ الطعام وتبريده. إضافة إلى شبكة الصرف داخل السوق، التي كانت تصرف مياه الغسيل بشكل تلقائي، أما الثلاثة أدوار الباقية فيمكن الوصول إليها عبر درجات سلالم. في الماضي كانت السوق تتكون من أكثر من 200 متجر، كان بينها مقاه ومخابز، ومكاتب للبريد والتلغراف ومكاتب استيراد وتصدير، لم يعد يعمل منها سوى ما يزيد على 50 محلا.
متى بدأ تدهور أحوال سوق باب اللوق؟
ربما كانت البداية مع تفكيك خط الترام، وتحويل ميدان الفلكي إلى موقف للباص، ثم إلى موقف للسيارات، وهو ما أفقد السوق الكثير من زبائنه. أيضًا يتحدث التجار عن تغيير التركيبة السكانية لوسط البلد، وما صاحب ذلك من ضعف القوة الشرائية.
لكن لاشك أن مسألة الملكية وتوزعها بين عدد كبير من الورثة (حيث يتشارك في ملكيته العشرات من ورثة “أولاد عسى”) أدى إلى إهمال السوق، الذي لم يعد له صاحب واحد، بل أصحاب كُثر يصعب اتفاقهم على الأمور المالية مثل الصيانة أو الترميم أو حتى البيع.
تعدد الملكية والتجديد العشوائي للسوق يهدد تاريخه
وكان من الطبيعي أن تتدهور حالة السوق أكثر مع الزمن، في ظل غياب أي سياسة للدولة للحفاظ على الأسواق التاريخية، أو استثمارها لأغراض تجارية أو سياحية.
الآن اختفت شبكة الصرف داخل السوق، حيث كانت تصرف مياه الغسيل بشكل تلقائي، وذلك بسبب التجديد العشوائي للأرضيات الذي قام به كل محل على حدة. أضف إلى ذلك عمليات البناء المخالفة التي انتشرت مع احتياج التجار إلى مساحات إضافة، وتناثر المخلفات فوق السطح، مما أفقد السوق هويته، بل وربما أصبح يهدد أجزاء منه بالانهيار تحت وطأة التغيرات المضافة إليه.
تطوير سوق باب اللوق.. دراسة مؤجلة

ربما تبدو فكرة تطوير سوق باب اللوق وتجديده مستحيلة للوهلة الأولى. فالورثة (وهم بالعشرات) ربما لا يهتمون بإنفاق أموال طائلة على مشروع لن يستفيدوا منه كثيرًا، والمستأجرون الذين يصارعون الأوضاع الاقتصادية المتدهورة لن يتحمسوا للإنفاق على المبنى من أموالهم الخاصة. لذا كان لابد من حوار مجتمعي مع الإرادة السياسية، فجاءت فكرة إجراء دراسة على السوق في مايو 2017 بالتنسيق مع كلية هندسة جامعة القاهرة، لتطوير سوق “باب اللوق” من خلال برنامج مشترك مع جامعة “نيو كاسل” الإنجليزية والمجلس البريطاني ومؤسسة “نيوتن – مشرفة”، نظرا لأهمية السوق التاريخية، باعتباره قاعدة اقتصادية هامة للحركة التجارية بوسط البلد يجب الحفاظ عليها.. ولكن حتى الآن مع توقف مشروع تطوير القاهرة الخديوية لأسباب تتعلق بالتمويل، توقفت تلك الدراسة وبقى السوق على حاله يصارع الإهمال. منتظرًا اهتمام المسئولين قبل أن يلحق بنظيره سوق العتبة التاريخي الذي احترق منذ أيام واختفت معالمه.
2 تعليقات