مقالات

الممكن والمستحيل

من يعرفونني جيدا يعرفون أنني أقضي معظم وقتي أفكر في الإمكانيات المتاحة لمستقبل وسط البلد- بل والقاهرة عموما، للأمانة. أقضي قسمًا مبالغا فيه من الوقت وأنا ألفّ وأدور، أو أتحدث مع الناس، أو أركز على أجزاء مختلفة أو أحياء مختلفة وأظل أفكر فيما يمكن فعله، وما لا يمكن فعله. ما الذي جعل الأشياء على وضعها الراهن؟ وكيف وصلت إلى هذا الحال؟ وكيف يمكن أن تتغير إلى الأفضل؟ ولقد ظللت أفعل ذلك لأكثر من عشرين عاما، ولا أنوي أن أتوقف عما قريب.

على الرغم من أنني ولدت في مصر أنا نشأت في مكان آخر (في الولايات المتحدة)، وحالفني الحظ فسافرت إلى مدن كثيرة، لا أستطيع أيضا أن أمنع نفسي من النظر والمقارنة، من التساؤل: هل يمكن لـ”هنا” أن يصبح أشبه بـ”هناك”، لكن على طريقتنا الخاصة؟

لست ساذجا. صحيح أنني حالم، لكنني أيضا منخرط بعمق في هذه المسألة (وزاد انخراطي أكثر منذ أسسنا جريدة “منطقتي”، وأكثر وأكثر منذ أصبحت متحدثا باسم “اللجنة القومية لتطوير وحماية القاهرة التراثية”)؛ مشغول في محاولة فهم التفاصيل والحقائق المعقدة التي تجعل الأشياء كما هي الآن. أقصد هنا أشياء مثل دوافع الناس، هياكل وآليات الحكم المحلي، التاريخ والمستقبل، الاعتبارات المالية، إلى آخر كل ذلك.

ومع وضع كل ما سبق في الحسبان، أريد أن أحكي قصتين صغيرتين لكنهما معبرتين، لاثنتين من نزهاتي الأخيرة في شوارع وسط البلد.

1- محاولة بائسة للجلوس في ميدان الأوبرا

لن تجد أي مقعد في هذه الحديقة الجميلة، هذا المكان المثالي للجلوس ومراقبة العالم من حولك. لكن ذلك لا يمنع الناس من العثور على حلول. فتجدهم، فرادى وجماعات، يستخدمون الحديقة للاستراحة. لكن ذلك يكون إما بالجلوس على العشب، أو محاولة القعود في جلسات منحنية ومزعجة على السور الرخامي المحيط بتمثال ابراهم باشا المهيب.

الموقع استراتيجي بامتياز، فميدان الأوبرا يقع في قلب وسط البلد. وعندما تجلس في الحديقة الصغيرة المحيطة بالتمثال، هناك في مركز هذه المدينة التاريخية، تجد نفسك محاطا بآثار الماضي المهيبة، لكنها متداعية: مبانٍ عمرها مائة سنة بحاجة إلى ترميم، وفندق عالمي هائل يجري هدمه، في قرار مثير للجدل، لكي يُبنى من جديد بشكل أكثر  فخامة.

تمثال إبراهيم باشا بميدان الأوبرا
تمثال إبراهيم باشا بميدان الأوبرا

لكن الأمور لا تتوقف عند هذا الحد: إذ تجد عقلك يسرح إلى الحدائق التذكارية التي رأيتها في مدن تراثية شبيهة بمدينتنا: مدريد، لشبونة، باريس، لندن، بل وحتى بلتيمور.

لعلكم فهمتم قصدي: لماذا تتيح تلك المدن لشخص عادي أن يتنزه في حدائقها بكل سهولة ويسر؟ لأن ذلك يجعله يفكر في أمجاد منطقته. هذه البلاد تجعل مواطنها يفتخر بها وبنفسه لأنه ينتمي إليها. تجعله يعيش في صورتها المجسدة. تجعله يشعر أنه قادر على فعل أشياء عظيمة مثل التي يراها من حوله.

نعم، الأمم والمدن تشجع مواطنيها على أن يكونوا عظماء، عن طريق خلق مساحات عامة جميلة ومفتوحة للحياة. والحقيقة أن ذلك أمر هيّن، خاصة بالنظر إلى ظروفنا الحالية، السياسية والاجتماعية والثقافية.

دعنا نلخص هذه القصة كالتالي: اعطني مكانا لطيفا لأجلس فيه، وكل شيء سيعتني بنفسه بعد ذلك. أو، على الأقل، هذا ما فكرت فيه تلك الليلة.

2 – ما الذي ينقص حدائقنا لتكون عظيمة؟

على هذا النحو أيضًا، راودتني أفكار مجيدة عن منطقتنا مؤخرا، وتحديدا ليلة افتتاح المقر الجديد لـ”زاوية” في سينما كريم. كان الحفل مقتصرا على حوالي 300 شخصا. شاهدنا نسخة مرممة من فيلم “باب الحديد” ليوسف شاهين. وكانت تجربة رائعة: أن نشاهد كيف كان شكل محطة رمسيس سنة 1958، وقت إنتاج الفيلم، وأن نعيش دراما الأبطال المحبوكة بإبداع، والتي حاولت أيضا إعادة خلق الحياة الحقيقية في ذلك الزمن (وهي حياة لا تختلف كثيرا عن الوضع الراهن في حقيقة الأمر- شاهد الفيلم ثانية ونتكلم بعد ذلك).

سينما زاوية في مقرها الجديد بشارع عماد الدين
سينما زاوية في مقرها الجديد بشارع عماد الدين

على أي حال، كانت ليلة “وسط بلدية” بديعة. العمارات التي رممت حديثا في شارع عماد الدين كانت مبهرة بحق. وكان ثمة إحساس أن شيئا ما يحدث هنا. حراك من نوع ما. بعد الفيلم، انتقلنا كلنا إلى فندق ويندسور التاريخي القريب للمشاركة في حفل استقبال. لا أظن أن الفندق شهد هذا العدد من الزوار منذ أيام مجده قبل سنوات طويلة.

واعذروني إذا كنت شاعريا قليلا هنا: تلك الليلة في افتتاح سينما زاوية، والسير وسط الشوارع والعمارات، وسط الناس، وسط النسخة الرومانسية مما هو ممكن، وما هو غير ممكن، بدت أنها تكسر حاجز ما يظنه الكثيرون مستحيلا: أن وسط البلد لديها فرصة لتعيش أياما أفضل. أن ما يصلح “هناك”، يمكن أن يصلح “هنا”. فقط علينا أن ننظر إليه بعين جديدة.

لا يحتاج ذلك إلا إلى الاستثمار في حلم طويل الأمد؛ حلم قريب بما يكفي لأن نلمسه، لكنه بعيد إلى حد يتطلب مرونة لم نشهد مثلها من قبل.

لكن، ألا تحتاج قصص الحياة والنجاح كلها إلى استثمار في أحلام كهذه؟

بعد الحفل، خرجت لأتمشى في واحدة من جولاتي الطويلة التي لا تنتهي. تلك المرة سِرت في شارع عماد الدين باتجاه ميدان رمسيس. أردت أن أرى المحطة عن قرب بعد أن رأيت صورتها المجيدة على الشاشة. هذا الجزء من وسط البلد لا يزال غير مرغوب من الشباب العصري: لا يبدو أن أحدا قد فكر في النهوض به، على الأقل ليس مثلما فكروا، واتخذوا خطوات حقيقية باتجاه تحديث المناطق المحيطة بميداني التحرير وطلعت حرب.

تلك هي الأمثلة التي تظهر لك حجم مدينتنا- حجم الإمكانيات المتوفرة في كل شارع وكل حي. في القسم الأخير من شارع عماد الدين هناك كنز حقيقي بانتظار التطوير.

هناك مبانٍ تراثية تحتفظ برونقها الخارجي. لكن حتى الآن، لا أحد يهتم.

إنه جزء رائع من المدينة يحمل إمكانيات هائلة. على سبيل المثال: مررتُ ببار صغير مضاء في الطابق الأرضي لمبنى تاريخي منخفض وأنيق. هل فكرت أي من الأسماء التجارية الكبيرة في شرائه أو استئجاره، ومن ثم المشاركة في تنمية المنطقة بأكملها؟ تلك المنطقة التي لا يرتادها أحد تقريبا، والتي تجد فيها مائة مكان لركن سيارتك. بقليل من الخيال تستطيع أن ترى كيف يمكن أن تتطور المنطقة بأكملها في بضع سنوات لتتحول إلى وجهة سياحية صاخبة، تفيدُ الحي اقتصاديا، وتملؤنا بالفخر.

طيب. ربما فكر أحدهم في الأمر. إذ كان ذلك المبنى على بعد خطوات قليلة من فندق فيكتوريا القديم في شارع الجمهورية، الذي يبدو من لافتته الجديدة أنه سيتحول إلى أحد فنادق “أزور” عما قريب. على أي حال، هناك أيضا سينما على الجانب الآخر من الشارع. ها أنت بدأت تفهمني. هذه المنطقة لا تبعد كثيرا عن وسط البلد: فقط بضع دقائق من التمشية اللطيفة. إنه أمر يستحق التفكير.

وبينما كنت أفكر في ذلك، وجدتني أصل إلى ميدان رمسيس. وهناك، انقطعت الرؤى الرومانسية فجأة.

إذ استوعبت المشهد بأكمله: الإيقاع البطيء في المحافظة على التراث، ذلك الذي يواجه انتقادات مختلفة، والإيقاع السريع للتغيرات المجتمعية، وكورنيش النيل الذي لا يزوره أحد تقريبا فوق طبقة اجتماعية واقتصادية معينة، حتى بعد تجديده. فكرت في المشكلات المالية، في غياب الإرادة، في ضرورة الصراع الدائم ضد الاستسلام. فكرت في من سيضارون ومن سيستفيدون من أي  عملية تجديد لوسط المدينة. فكرت في الصحافة ودورها؛ في الحلم، والرؤية، والسياسة.

ميدان العتبة
ميدان العتبة

عند تلك اللحظة، أدركت أن الساعة تجاوزت منتصف الليل، وأصبحت الحدائق الخضراء الكبيرة أمام المحطة في هذا الميدان الهائل ممتلئة تماما بالمشردين الذين يتمددون وينامون في صفوف فوق كل مساحة خضراء، ويستغلون كل متر من العشب.

وفكرت: ربما لهذا السبب لا يريدون إنشاء أي حدائق جديدة، ولا جعل الحدائق أكثر أناقة أو ترحيبا بالجمهور: لأن المشردين ينامون في الحدائق، ولأن المسؤولين لا يمتلكون منظومة فعالة للتعامل مع مسألة شائكة كهذه.

نعم، المشردون جزء من منظومة مدينتنا. لا يمكن أن نتجاهلهم بعد الآن ونظل في أبراجنا العاجية ندعو للحفاظ على التراث ونستنكر ما يحيق بمدينتنا من دمار: ما يجب أن نفعله، في الحقيقة، هو أن نحاول بقوة أكبر فهم الأسباب التي أوصلتنا إلى هذا الحال؛ التفاصيل المعقدة للوضع الشامل. الحل الوحيد هو أن نغوص أعمق وأعمق. أن نحاول التوصل إلى منظومة تربط كل هذه الخيوط معا بطريقة ما. وصدقوني: هذه رحلة تحتاج إلى وقت طويل.

الوسوم

‫2 تعليقات

  1. تنبيه: Google
  2. تنبيه: Google
إغلاق
إغلاق